اللُّولَّة وسيدِي ولدْ المعلُوم

بمناسبَة الرابعِ من يونيُو: أعيد نشرَ هذا النص وهو جزءٌ من رواية ترجمَت بأسلوب أدبي لبعض أعلامِ موريتانِيا في كل الفنُون.

————
يقيرْ إفاصِل حدْ اخلطْ == عينيـنَ عنَّا گطَّينَ
بعدْ اتبَاغينَ وانَّ گطْ == اتگاربْن واتحَالينَ
في تلكَ السَّاعة المأخوذة عنوةً من نسبيةِ الزَّمن وتناسقِه وهرميته عرَّف سانتيانَا الجمَال في حدٍ ليسَ من حدود ابنِ عرَفة، فقال: لذَّة تحوَّلت موضوعا، جلسَ سيدي ولدْ المعلُوم علَى ناصِية هضبةٍ بينَ طيبة واحسي التوفِيق بعدَ أن سارَ يوماً كاملاً بينَ غنيماتٍ يتبعُ بها شعفَ الجبَال ومواقعَ القطر، ثمَّ أنشدَ وهوَ يخاطبُ صوتاً لا صورة:
الهَوْلْ اگْبيل امنَينْ انشَاه == ملانَ واحسنْ تدبيرُو.!؟
دارُو فيديكُم مخلَّاه == يعرفْ بلْ امنَين يدِيرُو
إنَّه لا يرَى الجمَال لذَّةً تحوَّلت موضوعا، ولا موضوعاً تحول لذةً، ولا أفقاً شاسعاً من اللذاتِ المتراكمَة بلا نهايةٍ كسلاحفِ نِيتشَه وهوَ يقتطِف لنفسِه النصْر على عجوزٍ جميلة، إنَّه يرى الجمَال من حيثُ لا تروْنه: صوتاً بعيداً ينبعِث من الرَّاديو ذاتِ العيارِ المندثِر التي يحملُها علَى ظهرِه ككرسِيٍ يجلسُ عليه قهوجِي مصرِي ورثَه عن جدِّه السَّابعِ كلَّ صباح، تتقَطَّع الموجَات الصَّوتية إلَى أذنَيه ليتقَاطرَ منها قولَ گرايْ:
أقيمِي ديمِي أو سيرِي فنصراً == عزيزاً إن تسِيري أوْ تقيمِي
كانَ ولد المعْلوم يودِّع كلَّ صباحٍ أمه ويجمعُ غنيمَاته، ويشترِي بطاريتَين صغيرَتين، يعمرُ بهِما قلبَه الذي يحملُه على كتفيه، يحملُ عصاهُ وماءَه ويسيرُ بينَ غنيمَاته التي يظهرُ بينَها كمَا يظْهر أبو الهَول بينَ زائرِيه، يسكتُ ولد المعلوم وتسكتُ الغنَيمات حينَ يبدأ صوتُ اللُّوله خافتاً من بنضِ صباحِ الخير:
أرَى برقَ الغويْر إذا تراءَى == بأقصَى الشَّام زوَّدني بكَـاء
ومَا عَبرَ الصَّبا النَّجدِي إلَّا == ليمطرَ ناظرَيَّ دماً وماء
تظَلُّ ديمِي وتمسِي تختزلُ مشاعرَ ولد المعلُوم فتقلِّب قلبَه ذات اليمِين وذات الشِّمال، تذكِّرُه الأطلال والمرابِع وأيام الصِّبا والآخرة والدنْيا وأهل الحب وأحوالَ النَّاس، يسمعُ "الكنتاوِية" فيفيضُ ألما وحسرةً على ماضٍ لا يرجِع، ويسمعُ "الشَّوق" فيفيضُ شوقا إلى الماضِي ذاته، ويسمعُ "لندن" فيفيض وطنيةً على وطنٍ منكوب، ويسمع "الدعايَة" فيفيضُ صبابةً وحبا، ويسمع "حظرَ التجوال" فيفيض هوساً وولها، ويسمعُ "الغرام" فيفيضُ غراما وعشقا، ويسمعُ "الليْمون" فيفيضُ بكاءً على شيءٍ لا يدرِي ما هو، ويطارِح تيكِفِّيت والبلوتو والدَّبيه أشواقاً تتناثرُ مع موجاتِ صوتِ ديمِي كمَا تتداخَل الأرقامُ في المعادَلات الفاسدَة، ويختِم بالوداعِ قبلَ غروب الشَّمس وهوَ راجعٌ إلى أهله، فيسمعُ عندَ مضاربِ الحمَى صوتَ ديمِي وهي تودِّع الرحلَة مع السَّعادة:
وانظرْه عنِّي إنَّ طرفي عاقنِي == إرسالُ دمعي فيهِ عن إرسالِه
ثمَّ يرسلُ تلكَ الدمعَة التي لا تعوقه وهِي تقول:
تارِي تيشلَاطْ == وتارِي ترلبَ
وتارِي حسْ اعيَاطْ == مدَّه منطرْبه
جلسَ ولد المعلُوم مرةً معَ شيخٍ كبَّارٍ أرسلَ قلبَه معَ ديمِي ولمْ ترجِعه بعد، فحدَّثه بسندٍ منقطِعٍ أنَّ نزار قبَّاني عرَّفه رجلٌ في مصرَ فقالَ: هذَا نزار الذِي غنَّت له الستُّ أمُّ كلثوم، فضحك ثمَّ قالَ، وغنَّت لي ديمِي بنتُ آبَّ في أقصَى المغرب العرَبي. فكرَ ولد المعلوم ثمَّ قال: نعمْ هوَ سندٌ أشد انقطَاعاً من عبد الرَّزاق عن الثورِي في حدِيث حذَيفة، إذ كيفَ يجمَع الدَّهر نزاراً وشيخاً يحملُ طوبتهُ في أقاصِي الخيام.؟ ولكنَّه دونَ شك صحيح المعنَى فحقٌ لنزار أن يفتخرَ أنَّ ديمي غنَّت له.
واحمَارِكْ غالبْ كلْ حدْ == حسِّك معطَ ملانَ
ومعْطَ ملانَ ما اتگِـد == تگْعدْ فيه الشَّـيَّـانَ
عرفَ ولد المعلُوم معَ ديمِي أنَّ مقامَ لكحَال أحسنُ عندها منهُ عند احمدُّو ولد الميداح، وأنَّ اللِّين أحسنُ عندهَا منهُ عند النِّعمة، وأنَّ لبتيت أحسنُ عندها منهُ عند امَّاش، وأن سينِي أحسنُ عندها منهُ عند المحجوبَة، وأنَّها فاقتْ والدَها وجدَّها وبنيهَا وأمَّها وبنِي عمومَتها وجدودَها في بضعٍ وخمْسينَ سنة، وتعلَّم من ديمِي كيفَ يفصلُ بين الجانِبة البيضاءِ والسوداءِ والعاگر، وكيفَ يأتِي صوتُ آردِين كمَا أرادَ اللَّـه له، وكيفَ توردُ النِّواء العتَاق في كلِّ ظهرٍ من ظهورِ الهوْل، وكيفَ يساقُ البُلْهُ الأوَّل والأخِير، وكيفَ يتجسَّد الجمَال شخصاً إذا شدَت اللُّولَّه:
متعَامِي عن فلشِي == غيرْ اصَّ گاعْ اعيَاوْ
وحدَين يشوفو شِ == يبغُوه ويتعمَــاوْ
تعلمَ ولد المعلُوم عند ديمِي أنَّ هنالك ذاتاً تسمَّى ليلَى؛ حينَ تساءَلت عجباً: "ليلَى يخوتِي هذِي شنهِي"؟، وأنَّ هنالكَ رجلاً يسمَّى ولد الشَّاه، وأنَّ هنالكَ داراً تسمَّى تگِمَّاطين، وهنالكَ رابيةً بينَ روابٍ تسمَّى انولْكي، وأنَّ هنالكَ رجلاً اسمهُ احمدْ دينْ كانَ يجلسُ على رابيةٍ يطارِحها الولَه والحبَّ والأسى فتسمَّت باسمِه، وأنَّ الأرضَ للَّـه يورثُها من يشاءُ من عبادِه والعاقبَة للمتَّقين.
غرسُ فيهِ اللَّـيعاتْ == وزَّهزاوْ وفتْرابُو
هذُو هومَ طرحَاتْ == ملانَ واعلابُ
لمْ يرَ ولد المعلُوم ديمِي في حياتِه، كانَ صوتها ملهماً ومعلماً له، وكانتْ ذاتها غائبةً عنه، علَّمته ديمِي: أنَّ الدنيَا نضارَة أيكة، إذا اخضلَّ منها جانبٌ خفَّ جانب، وأن ليلَى بالعراقِ مريضة، وأنَّ أبا فراسَ الحمدَاني يطارِح الشوْق في سجونِ الرُّوم إذا الليلُ أضواهُ بسطَ هواه، وأسبلَ دمعاً من خلائقِه الكِبر لا الستْر، نعم.. علَّمته ديمِي علماً كثيراً، أكثرَ حتَّى ممَّا علمَه شيخُه اليعقُوبي الذِي فكَّ له طلاسمَ طرَّة علمِ الجنسِ عندَ قولِ ابن مالك:
وقرنٍ وعدنٍ ولاحقِ == وشذقمٍ وهيلةٍ وواشقِ
وحينَ قاربَ ولد المعلُوم الثَّلاثين حانَ فراقُ الأشباح واتِّصال الأرواح.. فكرَ وقدَّر ثمَّ فكرَ وقدَّر ثمَّ عبَس وبسرَ ثم أدركَ أن الورَع يقتضِي أن يفارقَ صوتَ ديمِي إلَى غيرِ رجعَة، عزوفاً عن الخلاف في حرمةِ السَّماع، ثمَّ أنشدَ قولَ ولد الصَّبار:
لا تعجَبوا من قيامِي عن مغنيةٍ == إذا شدَت قالَ ربَّات المزامرِ كمْ
فقدْ يليقُ بكمْ ما لا يليقُ بنا == وقدْ يليقُ بنَا ما لا يلِيقُ بكُـــمْ
اتخذَ ولد المعلُوم من القرآن أنيساً وصاحبا بعدَ ذلك، وأقبلَ إلى اللَّـه غير مدبِرٍ عنه، ثمَّ زارَ انواكشُوط لأولِ مرةٍ قكانَ أوَّل ما سألَ عنه: قبر ديمِي بنت سيداتِي ولد آبَّ
وقفَ علَى ذلكَ القبر الذِي كانَ مكمنَ سعادةٍ لهُ ردَحاً من الزَّمان، ودموعُه على كفِّ عفرِيت، ثمَّ أنشأ يقُول:
ما بينَ غمضَة عينٍ وانتبَاهتِها == يغيرُ اللَّـه من حالٍ إلَى حال
اللَّـهمَّ ارحمْها بمَا مدَحت نبِيك، وبمَا أسعدَت من عبادك، وبمَا زرعتْ من الجمَال علَى وجهِ الأرض، وتقبلْها عندَك لا مطرودةً ولا محرومة.
ثم أدركَ ولد المعلُوم وهوَ ينظرُ إلى هذا القبْر الذِي هوَ الشَّاهد الوحِيد علَى أنَّ ديمِي ماتتْ، لا أصواتهَا المنبَعثة من كلِّ شيءٍ في العاصِمة انواكشُوط: أنَّ ذلكَ الصَّوت الذي انبعثَ من ذلكَ الرَّادْيو المتهالِك تكمنُ وراءَه فتاة بلغتْ في هذا الفنِّ مبلغَ الطُّوسي في المنطقِ والزَّركشي في الأصُول والمتنَبي في الشِّعر وليونِيل ميسي في كرَة القدَم.
نهْوَل هولِك ذَ كلْ حدْ == عندْ امنَين اتغنِّيل
والْ ما نهُولُ ذاكْ بعدْ == گاطِع مولْ اتنَهوِيلُ

عبد الرحمن النحوي