صديقي محمد فاضل، ذلك الذي لا يشبه أبدا صاحب البنطلون

صديقي محمد فاضل، ذلك الذي لا يشبه أبدا صاحب البنطلون

محمد فاضل عبد اللطيف صديق مقرب، وزميل عمل، ورفيق غربة لخمس سنوات، فضلا عن كونه شريك حكايات طويلة ونكت ببهارات.

تعود معرفتي بفاضل إلى سنوات " تيرانغا" أو بعدها بقليل، التقينا حينها عند قهوة سافانا كافي، بناء على موعد مسبق، وكان حينها حليقا على النمط الكاثوليكي، ويضحك كثيرا بدون تحفظ.

لا أمل أبدا من أحاديث محمد فاضل، لأنه يتحدث كما يكتب، مثله مثل قريني ولد أمينوه تماما. مع وجود فارق بسيط بين الاثنين.
يسترسل قريني في حديثه بإيقاع زاحف، وهو نصف متكئ، وأحيانا يضع رجلا على ركبة، ويشرب من حافة كأس الشاي، أو علبة الكوكا بمهل قاتل لأمثالي من " المستعجلين دوما"

بينما يراوح محمد فاضل بين الجلوس والوقوف والتدخين أثناء سرد الحكايات، ويحدث أحيانا أن يتحرك داخل المكان بقميص وسروال قصير، كي يتمكن من تقليد حركات شخوصه بحرية.

يتميز محمد فاضل بقوة الاستهلال حين يبدأ، ويتميز قريني بقوة الخلاصات حين يختم.
فيالهما من صديقان يكبرني أحدهما قليلا، و يصغرني الآخر قليلا...غير مهم.
*****
وبالعودة إلى محمد فاضل فقط أقول:

لا يمكن لذلك الرجل أن يكون عنصريا، ولن يكون، بل العكس.
محمد فاضل أديب يتحدث بتجرد، ينتقد عفن مجتمعه بعين الرجل الحاذق.
يستحضر بحيلة أدبية مشوقة، كيف ينظر طفل -أي طفل- تمت تنشئته على قيم العنصرية البدائية إلى الآخر المختلف.
ولو لم يتحرر محمد فاضل "الرجل" من نظرة الطفل المريض بعقدة الفوقية، لما استحضر القصة – التجربة بكل أريحية.

تأملوا....
محمد فاضل يستحضر تجربة عايشها بعقل طفل لم يعد، لكنه يقول لنا بطريقته الخاصة:
- خلصوا أولادكم، يا عباد الله، من مرضي القديم، لا تربوهم كما رباني مجتمعي المريض.
*********
لكن دعونا من محمد فاضل، وإليكم هنا قصة مشابهة حصلت معي شخصيا سنة 2008، وهي قصة رجل راشد، ويتقلد اليوم منصبا ساميا.

في بواكير عملي بمهنة الصحافة، انضممت لجريدة يومية محترمة، وكنت مكلفا بتعبئة الصفحة الثقافية يوميا، بناء على تكليف وتشريف من رئيس التحرير- الذي أجله جدا.
ونظرا لشح المادة الثقافية اليومية بعاصمة لا يقيم أهلها وزنا للثقافة، كنت أعتاش- غالبا- على نشاطات المركز الثقافي الفرنسي، وأحيانا أنشر قصة أدبية كتبتها بنفسي، أو أقدم قراءة في كتاب، وربما قمت بترجمة مقال أو نص.

ذات ضحى، دلف من الباب الرئيسي لمبنى الجريدة قادم جديد، وكان أشعث، أغبر، يتقدمه أحد إداريي المؤسسة، وقال الأخير:

- فلان الفلاني، سيعمل ابتداء من اليوم، مدققا لغويا في الجريدة.

تطلعت إلى القادم الجديد، فعرفت بفطرتي المجراوية، أنه قادم لتوه من بيئة ريفية، مع احترامي الشديد لأهلي في الريف.
وخمنت أنه ينتمي -حتما- لشخصيات الظل، أولئك الذين يتطوعون بالوشاية، ويجلسون بصمت خلف ظهر المدير، يوشوشون في أذنه كلاما يجعله يبتسم و يقطب ويندهش...

حين قدم الرجل في أسابيعه الأولى، كان ما يزال يسير مباعدا بين ساقيه، يلبس بناطيل حيثما اتفق، وتكون دائما أقصر من مقاسه،
وينتعل أحذية جلدية من نوع موكاساه Mocasín دون جوارب، وهو ما يرجح أنها قدمت له كهدية.

كان يتحدث بنبرة مختلفة نسبيا، يستحضر فيها دائما أمثلة من بيئة خاصة، موغلة في المحلية، وكانت عباراته تتضمن دوما بعض الإيحاءات العنصرية الأصيلة، ثم يحنى رأسه ويبتسم.
لم تكن تدخلاته - كمدقق لغوي- تروق للزملاء، لأن لغته لم تكن تتماشى مع اللغة المعاصرة للصحافة، فيعرقل أحيانا عمل المحررين، خصوصا عندما يلجأ لقص بعض الفقرات، مقدما لذلك مبررات غريبة، يقول في بعضها إنها قد تسيئ لقبيلة أو مجموعة معينة، وربما قد تؤدي لانبعاث بعض الحساسيات القبيلة والمناطقية القديمة.

وكنت أراه ببساطة رجلا من الماضي.

*************
اشتركت معه نقاشا حادا ذات يوم، أمام بوابة الجريدة، بحضور زميل عزيز- لن أذكر اسمه هنا.
وكنت حينها أنظر إليه كما ينظر أي متمدن مغرور إلى بدوي متخلف، لكنني كنت أيضا أقرأ في عينيه نظرات الازدراء لشخصي.
والحقيقة أقول إنني كنت ممتلئ ثقة، تميز سكان المجرية القدماء،
وهي ثقة تجعلنا نتصرف دوما وكأننا بشر عاديون، لا أحد أفضل منا، ولسنا أفضل من أحد.

وربما أغاظته تلك الصفة كثيرا، وراكمت لديه غضبا مكتوما بسبب ما كان يسمع من إشادة في حقي، من بعض الزملاء الذين يثنون على مهاراتي في العمل.

نظر إلي الرجل شزرا- أثناء النقاش الحاد، وقال بتشف:
- أنت صبي من الحراطين، ومع هذا معتد بنفسك، هذا يفكع (مثير للغضب)
حدقت في عينيه بكل ما أوتيت من بطر وخيلاء، وقلت له بتحد
- أنا مبلوك من لخلاكه، وأهلي كلهم أمبلكة، ذاك سر قديم، ثم أردفت قائلا:
- أنا أفهم جيدا أن بداوتك ونمط تربيتك تجعلك عاجزا عن استيعاب حالتي كحرطاني واثق من نفسه ومثقف.

**********
تدخل الزميل الحاضر - وكان لديه نفس حقوقي- وقال بما يشبه المزاح:

- هذا كلام عنصري خطير، لا بد أن تقدم ضده شكوى لدى الإدارة حالا، دعنا نبلغ الإدارة.

تحركنا صعودا إلى الإدارة، وكان الرجل يتبعنا وجلا، ومحرجا.

وبعد استعراض التفاصيل أمام المسؤول الإداري، اعترف السيد بخطئه، وطلب الصفح، وقد هممت بالعفو لحظتها، لكن تدخل الزميل المرافق أجل الموضوع إلى حين، ثم أنه تولدت لدي قناعة مفاجئة بضرورة محاسبته على ضلاله القديم.
حينها قال الزميل -وكان قرينا من الإنس أحبه جدا-
- لدي مقترح بسيط.
- ماهو؟ سألته بانتباه
- دعه يتنازل لك عن راتب الشهر كاملا، مقابل سحب الشكوى.
وقبل أن أرد، تململ الرجل المعتدي، ثم قال بعد تردد:
- فليكن، أنا مستعد للتنازل عن راتب الشهر.

حينها تدخل المسؤول الإداري، وكان رجلا وقورا، وباسما، فقال ما نصه:
- في الواقع، ما كان ينبغي لفلان أن يتلفظ تجاهك بهذا الكلام الجارح، أما وأنه قد اعترف واعتذر وطلب الصفح، فإن الإدارة تلتمس منك سحب الشكوى، وهي على استعداد لمنحك راتب شهر.
وبعد لحظة صمت، استطرد المسؤول قائلا:
- والإدارة تعتذر لك نيابة عنه، وهي تجد أنه من المحرج أيضا أن يرتبط اسمها بمثل هكذا تصرفات.

***************
استسغت وجاهة الطلب احتراما للإدارة، وشفقة على ذلك السيد الذي عبر بكل عفوية عما في نفسه تجاه من لم يظلمه يوما.

لكنني مدرك حتى اليوم، أن ما بنفس الإنسان من أوهام سيظل قابعا، مالم ينظفه عقل أو وعي أو دين...
مصطفى جمال محمد عمر