العنصر الأسود.. كما يحلو للبعض أن يقول ليس أكثرية في موريتانيا.. وهذه دعاية سخيفة وغير قانونية

سمعت مرات عبر منصات التواصل الاجتماعي تصريحات من أشخاص يقدمون أنفسهم على أنهم يديرون هيئات ومراكز فكرية حول التعداد العرقي والشرائحي الموريتاني. وكان آخر ما أثارني في ذلك هو عرض للسيد بيرام الذي يسعى، باندفاع كبير، نحو رئاسة البلد على نحو يتعارض مع إثارة وتبني الشرائحية وفلسفة "السود ضد البيض" في عرضه المقدم يوم 10 دجمبر 2024 خلال الطاولة المستديرة المنظمة في باريس حول حقوق الإنسان. يقول فيها إن العنصر العربي-البربري (رغم تحفظنا على المصطلح الممسوخ حضاريا وثقافيا) يمثل، على حد تعبيره، أقلية. ورغم أن هذه المقولة لا تستند إلى أي دليل، لا تاريخيا ولا واقعيا ولا من خلال أي وثيقة ولا إحصاء، وإنما هو مجرد تخمين بعيد من الحقيقة، فإنه يصب في دعاية تفريقية عنصرية، لا تستند هي الأخرى لأي بعد غير اللون، إلا أنها تريد تحقيق نتيجة غير قابلة للإثبات، وهي أقلية العنصر العربي . فبالرجوع لرسالة حاكم إقليم موريتانيا في إندر سنة 1957 إلى حاكم إفريقيا في دكار، نجده يطلب منه توجيه بث إذاعي لمدة ساعة إلى إقليم "البيظان "، وتكون 95% من توقيته بالحسانية، و5% باللهجات الزنجبة لأنهم يمثلون فقط 5%. وفي الإحصاء الإداري الفرنسي لسنة 1957 كان عدد السكان 760000 نسمة وكان الزنوج أقل من 70000 ألف نسمة. وهكذا يكون الزنوج لا يمثلون حتى اليوم أكثر من 12% ولن تصل مجموعة لحراطين أكثر من 35% حسب ما سيأتي .
إن ما تطرق له هؤلاء الإخوة الذين آخرهم السيد بيرام الداه اعبيد، النائب والمرشح للرئاسة مرتين على التوالي بأعلى نسبة أصوات ( 18%و 17% )، لم يتطرق له النصارى أنفسهم، فلم يتم أي إحصاء ليحدد عدد لحراطين والبيظان لأن المستعمر لاحظ طبيعة الامتزاج بين هذه المجموعة واعتبرها مجموعة واحدة بنفس المكونات الفكرية والثقافية والدينية وبهوية صلبة هي التي تشكل هذا الشعب عبر مسيرته التاريخانية على نحو لا يمكن تفكيكه لا على المستوى الثقافي ولا الديني ولا اللغوي ولا الملبس ولا الطموح. وهكذا لم يوجد أي إحصاء يمكن أن يكون خلفية أو أساسا أو مرجعية لأي معلومة إحصائية تحدد التعداد الذي يريد الإخوة تأكيده .
وبالنسبة للقرائن، فإن بموريتانيا مائة قبيلة، و لا توجد قبيلة واحدة منها تسمى لحراطين، ولا يوجد أي حرطاني من دون قبيلة، ولا توجد أي قبيلة يشكل لحراطين أكثريتها باستثناء إدوعيش وحدها، داخل هذا الكم القبلي. وبالنسبة للقرى والتجمعات التي عددها 1800 قرية وتجمع سكني، لا توجد لهذه الشريحة 500 قرية منها. ومن 60 مقاطعة، لا توجد سوى مقاطعتين على الإطلاق يمثلون فيها الأكثرية. ومن نواكشوط حتى النعمة. لا توجد سوى قريتين خاصتين بلحراطين. وبالنسبة لكبريات المدن، مثل انواكشوط وانواذيبو وازويرات وكيفة، فلا يمثلون أكثر من ثلث سكانها . وانطلاقا من ذلك، فإننا، حتى لو اعتمدنا ما بين السطور مما تروم إليه تلك التصريحات التي تعتمد على لون البشرة في هذا الإحصاء، فإن هذه النتيجة لن تكون واقعية ولا موضوعية . ومع ذلك تظل هذه التصريحات، بشحنتها هذه غير قانونية وغير أكاديمية وغير مقبولة من شخصيات ترى في نفسها الأهلية الثقافية والوطنية، وشخصية سياسية مرموقة تريد قيادة البلد .
قضية اللون ليست قاعدة لأي ايديولوجيا ولا لأي فكر ولا لأي دعاية سياسية ناجحة وواقعية، وكانت مطية لحركة افلام العنصرية التي تريد خلق قاعدة عريضة في المجتمع بهذا الخطاب من خلال تفكيكه، لكن بنية المجتمع التي شكلت هويته وامتزاجه جعلت حتى المستعمر لا يفكر في هذا الموضوع عبر أعتى صور ومخططات التفرقة: "فرق تسد ". وهكذا بقي هذا النوع من الخطابات ليس سوى محرك شوفيني عنصري لا يليق بأي حقوقي ولا حضري.
وعلى كل حال، لم يكن هذا هو نقاش القرن الواحد والعشرين، ولا نقاش النخبة التي يجب أن تستند للمرتكزات الحضارية المتعلقة بدولة القانون والمؤسسات .إن المشاكل الحالية، المتعلقة بغياب النمو الاقتصادي وبعدم عدالة توزيع الموارد أو بعدم المساواة، لا يمكن أن تتم وتناقش إلا في إطار الدولة الوطنية، فالوصول لتمدرس الزنوج وتصويتهم أخذ فترة زمنية طويلة في الولايات المتحدة، وكذلك تصويت المرأة وحقوقها. كل ذلك كان من خلال التجارب المدنية والديمقراطية وبتطوير مؤسسات الدولة والعقلية المدنية. وهو ما تطلب القرون. وهكذا نظلم نحن دولتنا التي عمرها أقل من سبعة قرون ومجتمعنا الذي لم يعرف مفهوم الدولة ولا سلطة مركزية قبل 1908 تقريبا .
إن ما يحتاجه البلد هو الإنسجام حول المطالب المدنية للشعب وتوكيد دولة المؤسسات والديمقراطية وخلق توافق وطني عام حول الأهداف العليا للبلد، وبث روح التآخي والابتعاد عن استخدام الإحساس الضغيني والضرب على أوتار الأحاسيس ومشاعر الضعفاء ونفخ صدورهم باستعادة الحقوق عبر الحلول المتأتية من للفرقة والانتقام وانكار ارضية التعايش والتمازج الموجودة منذ القرون وزرع أرضية التأجيج وروح الانتقام .
إني لا أرى في مثل هذه الدعاية أي مجال للسلم الأهلي، ولا أي دوافع سياسية من أجل تحقيق برنامج نبيل يخدم البلد والشعب ولا حتى الشرائح التي تقحم في تسويق هذا الخطاب للخارج .
إن أي خطاب من هذا النوع لا يمكن تسمية أصحابه بالوطنيين، خاصة إذا كان الغرض منه شخصي أو نفعي لأنه -في الواقع- لا يخدم البلد بأي شكل، ولا يمكن ان يكون برنامجا سياسيا ولا وطنيا .

من الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار