سيداتي وسادتي، سقط القناعُ عن القناعِ وانتهت الحفلة التنكريّة، شكرًا للبعض الكثير من العرب، الذين أدمنوا على الخيانة، شكرًا للطابور السادس الثقافيّ في الوطن العربيّ، وتحديدًا في دول الخليج، الذي عاد لمهاجمة سوريّة، شكرًا للرئيس التركيّ، رجب طيّب أردوغان، العضو في حلف شمال الأطلسيّ (الناتو)، الشكر موصول أيضًا لكلّ مَنْ يعمل على تحقيق حلم مؤسس الكيان، دافيد بن غوريون، الذي قال إنّ “عظمة اسرائيل ليست في قنبلتها الذريّة ولا ترسانتها العسكريّة، ولكن عظمة اسرائيل تكمن في انهيار ثلاث دولٍ، مصر والعراق وسوريّة”.
***
وإلى التفاصيل: مصر، أمّ الدنيا، وقعّت في العام 1979 على اتفاق استسلامٍ، وليس معاهدة سلام، مع إسرائيل، وبذلك أخرج النظام الحاكم آنذاك بقيادة أنور السادات، أكبر دولةٍ عربيّةٍ من البيت العربيّ، وذلك خدمةً للإمبرياليّة وأدواتها في المنطقة، واليوم بلاد الكنانة وصلت إلى أسوأ وضعٍ من جميع النواحي وباتت رهينةً لصندوق النقد الدوليّ، الذي يمنح القروض، تمامًا كما يجري فيما يُسّمى بالسوق السوداء. ولكن رأس الأفعى، الولايات المُتحدّة الأمريكيّة، لم تكتفِ بذلك، بل قامت بغزو العراق في العام 2003 تحت الذريعة الكاذبة بامتلاكه أسلحة غيرُ تقليديّةٍ، وأطاحت بالرئيس العراقيّ، الشهيد البطل، المغفور له، صدّام حسين، واليوم بعد أكثر من عقديْن على “تحرير” العراق من نظام حكم البعث أصبحت هذه الدولة العربيّة مُفتتة وفاشلة ومُقسمة طائفيًا ومذهبيًا وعرقيًا وما إلى ذلك من مسمياتٍ تؤكِّد خبث النوايا الأمريكيّة في كلّ ما يتعلّق بأمّة الناطقين بالضاد، وغنيٌّ عن القول إنّ مَنْ يُعوِّل على أمريكا لا يُعوَّل عليه.
***
ومن نوافل القول والجزم أيضًا إنّ سوريّة بالنسبة للصهاينة كانت وما زالت وستبقى العدوّ الأوّل والأخطر في مجموعة الدول العربيّة المحيطة بإسرائيل، وقد ازدادت هذه النظرة إلى سورية حدّة في أعقاب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وبشكلٍ خاصٍّ بعد أنْ تهافت السادات وراء التسوية، والتوقيع على معاهدة (كامب ديفيد) المُعيبة والمُذلّة، حيتُ بقيت سوريّة الدولة العربيّة المجاورة الوحيدة التي تتخذ موقفًا علنيًا رافضًا للتسويات والتطبيع، وقد تعامل ساسة وقادة إسرائيل مع سوريّة على مدى سنوات السبعينيات والثمانينيات مرورًا بالتسعينيات، وصولاً إلى أيامنا هذه، بوصفها الدولة العربيّة التي تُشكّل تهديدًا استراتيجيًا لإسرائيل.
***
وَجَبَ التشديد في هذه العُجالة على أنّ المؤامرة هي ضدّ سوريّة، شعبًا، حضارةً، ثقافةً، دولةً، نظامًا، تاريخًا، وليس ضدّ الرئيس د. بشّار الأسد فقط، من هذا المنطلق، كإنسانٍ، كعربيٍّ وكفلسطينيٍّ ليّ الكثير من التحفظات على تصرّفات النظام الحاكم في سوريّة، بيد أنّني في المعركة الحاليّة، التي يقودها الاستعمار والرجعيّة العربيّة ومجموعات من التكفيريين، الذين يبعدون عن الدّين ألف سنةٍ ضوئيّةٍ، أوكّد أنّ عدم اتخاذ الموقف هو موقف في قمّة الانتهازيّة، إذْ لا يُعقَل أنْ يقِف الشرفاء والأحرار إلى جانب “الثوار” في سوريّة، والذين يتلّقون التمويل من واشنطن وتوابعها من دول الخليج الرجعيّة ومن أردوغان، خدمةً للأجندات الدخيلة الهادفة لتحويل هذا البلد العربيّ، صاحب حضارة آلاف السنين، إلى دولةٍ فاشلةٍ تُحكَم من قبل عصاباتٍ متآمرةٍ تحت غطاء الدّين.
***
نعم، يريدون (أفغنة) سوريّة، أيْ نقل نموذج أفغانستان إلى بلاد الشام، وهنا المكان وهذا الزمان للتذكير بأنّ حركة (طالبان) التي تحكم أفغانستان، عادت إلى الحكم برعايةٍ وحمايةٍ أمريكيّةٍ، وبوساطةٍ قطريّةٍ، وأنّ أوّل قرارٍ اتخذته كان تحريم الدراسة على المرأة. فهل نُريد هذه العصابات التكفيريّة لإنشاء مجتمعٍ متخلّفٍ ورجعيٍّ ومدعومٍ من قوى الشرّ لحكم بلدٍ عربيٍّ كان قبل بدء المؤامرة عليه في العام 2011 دولة اكتفاءٍ ذاتيٍّ؟
***
المؤسف، المُعيب والمُخجل هو خيانة الكثيرين من المثقفين العرب، وفي هذا السياق نُذكِّر بمقولة لينين: “المثقفون هم أكثر الناس قدرةً على الخيانة، لأنّهم أكثرهم قدرةً على تبريرها.” لا يُعقَل أنْ يقوم هذا المثقف أوْ ذاك بصبّ جام غضبه على النظام السوريّ، ويُنظّر لدمقرطتها، وهو يُقيم في دولةٍ ديكتاتوريّةٍ تُحْكَم بالحديد والنار، والهجوم على النظام الحاكم في دمشق هو تبريرٌ الخيانة بطرقٍ سلسةٍ ودنيئةٍ. سقوط سوريّة، لا سمح الله، بأيدي التكفيريين هو خدمة مجانيّة لكلّ مَنْ يعمل سرًا أوْ علنًا من أجل تصفية القضية الفلسطينيّة أوْ ما تبقّى منها عن الأجندة.
***
ونُنهي بطرح عددٍ من الأسئلة: لماذا أحرق “الثوّار” في حلب العلم الفلسطينيّ؟ ولماذا انطلق هجومهم على المدينة الشهباء مُباشرةً بعد دخول وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل إلى حيِّز التنفيذ؟ كيف لفلسطينيٍّ يتغنّى بفلسطينيته ويُفاخِر بها، ولعربيٍّ يتغنّى بدعمه لفلسطين وقضيتها، أنْ يكون مؤيدًا لأشخاصٍ في سوريّة يدوسون العلَم الفلسطينيّ وأنْ يأمل منهم “حُرّيةً”؟ كيف يمكن ألّا نؤمن بأنّ سوريّة تتعرّض لمؤامرةٍ خبيثةٍ تخدم في نهاية المطاف واشنطن وكيان الاحتلال وأجنداتهما وتوابعهما في الشرق الأوسط؟
زهير حليم أندراوس
كاتبٌ من بلدة ترشيحا، شمال فلسطين