هل ما زالت هناك فرصة لإصلاح البلد؟د. محمد المنير

يراوح مكانه، والشعب يرزح تحت وطأة الفقر،            انعدام الإنجازات الملموسة. الأمر المثير للغضب هو أنه لم يتم تحقيق أي شيء تقريبا على أرض الواقع، على الرغم من إمكانات البلد، من حيث الموارد وقلة عدد السكان. فالدخل القومي تضاعف، من أقل من نصف مليار إلى أكثر من عشرة مليارات دولار، مما يمثل زيادة بنسبة 2000/%. كما أن الموريتانيين لا يطلبون المستحيل، فهم لا يحلمون بترامواي ولا بقطارات سريعة. حلمهم يقتصر، بكل بساطة، على الحصول على الخدمات الأساسية. لكن، حتى هذا الحد الأدنى، لم يتم تحقيقه، فما زلنا غير قادرين على توفير الماء والكهرباء والصحة والتعليم والصرف الصحي.

الانتخابات الرئاسية قد تكون فرصة لتكرار نفس المأساة، ونفس التعهدات وتسويق الأوهام، بإطلاق جيل جديد من الشعارات والوعود، وقد تكون فرصة لإحياء الأمل وإنقاذ البلد، عن طريق المبادرة بثورة من الأعلى، لتجنب ثورة من الأسفل، قد تعصف باستقرار البلاد وتماسك المجتمع. لذلك، لا بد من توضيح النيات، بشكل لا لُبْس فيه، بما يضمن استعادة الثقة. ولكي يقطع بلدنا شوطا بعيدا، وللحاق بالركب، نحتاج إعادة البلاد إلى مسار العمل، وذلك لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق من يملك إرادة حقيقية وصرامة قوية، ويدرك تطلعات الموريتانيين، ويسعى إلى تلبية تطلعاتهم المشروعة، ويفهم تداعيات اليأس لدى جميع فئات الشعب.

المجتمع وصل إلى نقطة الانهيار

خيبة أمل الموريتانيين وصلت ذروتها، مـع التأثيرات المتضاعفة للارتفاع المخيف للأسعار، والأجور المتدنية، واستشراء البطالة والفقر، ناهيك عن ضعف ولوج المواطنين إلى الخدمات الأساسية، من ماء وكهرباء وصحة وتعليم، مما يفسر تصاعد السخط بين فئات كبيرة من المجتمع، في ظل الهوة المتزايدة بين النخبة الثرية الغارقة في امتيازاتها، والغالبية العظمى من الشعب الكادحة التي تكافح من أجل البقاء.

كما أن الفجوة بين توقعات المواطنين ومستوى تنفيذ السياسات الحكومية تفاقمت، نظرا لغياب مقترحات وحلول ناجعة من طرف الحكومة، بفعل عدم تبني رؤية إصلاحية على مستوى القمة، الشيء الذي يعكسه غياب الحزم في اتخاذ القرارات، وعدم وجود إرادة قوية للقطيعة مع الأسلوب الذي كانت تسير به البلاد سابقا، والذي أثبت فشله.

المواطنون لم يعودوا يستطيعون التحمل، في ظل تزايد الحرمان والغبن، والفقر المستشري، وعدم المساواة، وتراكم المظالم. المجتمع وصل إلى نقطة الانهيار، ما يهدد باضطرابات اجتماعية. هذا الاستياء العام قد يؤدي إلى أزمة حقيقية وإلى تصاعد الغضب الشعبي لدى الفئات المحرومة والهشة، كالفقراء والشباب.

ثورة الفقراء على الأبواب

لطالما دق الكثير منا ناقوس الخطر من أجل لفت انتباه صناع القرار بشأن التفاوتات الصارخة، وحالات الفقر والضيق الشديد لكثير من الفئات الهشة، المتواجدة في الأحياء الشعبية في ضواحي المدن الكبرى، وفي الأرياف ومناطق “آدوابه” و”آفطوط”.

خصوصية هذه الفئات أنها لا تخضع أصلا لسلطة قبلية، وليست لها ولاءات ولا انتماءات تقليدية، و لا تتبع للوجهاء المحليين، لذلك هي مهمشة ولا يهتم بها أحد، إذ لا وجود للتضامن والتكافل الاجتماعي، فالعلاقات التقليدية ذابت في المدن. خاصة أن النظام لا يهتم إلا بالوجهاء، والوجهاء لا يهتمون إلا بأتباعهم، الذين يدعمونهم وفي المقابل يصوتون لهم. أما أولئك المواطنون، فهم غير معروفين، مع أن أعدادهم كبيرة جدا، وفي ازدياد، خاصة في المدن، نظرا لظاهرة الهجرة من الأرياف.

خصوصيتهم أيضا أنهم يعانون من انعدام الخدمات الأساسية، فالمناطق التي يعيشون فيها تخلو تماما من أي بنى تحتية ملائمة ولا يحصلون على الحد الأدنى من خدمات توزيع المياه الصالحة للشرب ولا من الكهرباء. أغلبيتهم تعاني من الهشاشة، وتعيش تحت خط الفقر المدقع، ولا يتجاوز الدخل الفردي اليومي لنسبة كبيرة منهم دولارا واحدا، لذلك هم أول المتضررين من غلاء الأسعار. وتوجد فيهم أعلى معدلات وفيات الأمهات والرضع في البلاد. كما أن أغلبية الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و11 سنة لا يتابعون الدراسة. ناهيك عن البطالة المتزايدة بين الشباب، مع انسداد الأفق نظرا لعدم القدرة على الهجرة. ومع ذلك يشاهدون يوميا المظاهر المستفزة للبذخ بالمال العام، في ظل الإحساس بالغبن والتهميش والإقصاء والظلم وعدم المساواة والتفاوت على أساس الانتماء الطبقي.

الحكومات لا تفهم هذه المعضلة، وتعتقد أنه يكفيها التعامل مع الوجهاء المحليين في الداخل، لضمان السلم في هذه المناطق. كما لا تنتبه لوضع هؤلاء المحرومين، وتتعامل معهم عن طريق الإجراءات التي تتخذها تآزر، كتقديم قروض صغيرة وتوزيع بعض المال على الفقراء، مما قد يساعد مؤقتا في خفض مستوى الاحتقان، إلا أنها لا ترقى إلى المستوى المطلوب لمعالجة حالات الفقر، وتبقى دون تأثير حقيقي، نظرا لكونها لا تنطلق من رؤية متكاملة، ولا من مقاربة تستهدف الفئات والمناطق الهشة، ولم يتم وضع نتائج محددة سلفا ومؤشرات قابلة للقياس.

الوجهاء لن ينفعوا النظام في مواجهة الفقراء والمهمشين في انواكشوط وانواذيبو والمدن الكبيرة، إذا قرروا النزول إلى الشارع، من أجل المطالبة بتحسين ظروفهم. فلم يعد باستطاعتهم الانتظار طويلا. كما لم يبق أمام النظام متسع من الوقت، وهامش التحرك أصبح ضيقا جدا. واهمٌ من يراهن على جهل هذه الفئات الهشة وصبرها، فلن يقبلوا بالبقاء في هذه الظروف، إلى أجل غير مسمى. على النظام باختصار أن يظهر لهم أن لديه أفكارا وأنه قد فهم رسالتهم. إذا تعذر ذلك، لا يمكن لأحد أن يتوقع ردة فعلهم، التي يمكن أن يثيرها اليأس الشديد وخيبة الأمل. نحن لم نعد في مرحلة الوعود والنوايا الحسنة، والوضع لا يحتمل أنصاف الحلول، كما أن سياسة السعي إلى احتواء وإرضاء الوجهاء والمفسدين قد تعطي نتائج عكسية.

الشباب، قنبلة موقوتة

مع تغير الأجيال الذي تشهده بلادنا، والنسبة الكبيرة المتزايدة من الشباب بين السكان، بدأت تتكون كتلة وازنة من المواطنين الواعين، والمستعدين للمساهمة في قلب موازين القوى مع النخب الفاسدة والوجهاء، الذين يسعون إلى إطالة تدجين الشعب، من أجل الحفاظ على هيمنتهم ومصالحهم. لذلك، لم تعد تؤثر فيهم المزايدة في الخطابات المفرطة في عدم الواقعية، ولم يعودوا في وضع يسمح لهم بالاستماع إلى الوعود والتعهدات.

لقد كسر الشباب حاجز الخوف، نظرا للتدهور غير المسبوق لظروف البلد، في ظل لامبالاة النظام، الذي لا يولي اهتماما إلا لبنات وأبناء الأسر ذات النفوذ، الذين تقتصر عليهم التعيينات، بموازاة تهميش وإقصاء أبناء الطبقات الأخرى، الذين يعانون من التفاوتات الطبقية التي لا تطاق، والظلم الصارخ، والبطالة الهائلة، والفساد المستشري. كل هذه العوامل تشكل الشرارة التي ستشعل وتؤجج الاحتقان، الذي قد يعصف باستقرار البلد، منذرا باندلاع انتفاضة أو اضطرابات اجتماعية وشيكة. خاصة أن الشباب أدركوا أنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، بعد أن تأكدوا أن مطالبهم الشرعية لم يتم التعامل معها بصفة إيجابية من طرف النخب الحاكمة. هذه النخب تعاني من رفض جماعي من طرف فئة الشباب وتثير لديها كثيرا من النفور والكراهية.

حتى نزوح الشباب الموريتاني، رغم المخاطر، لم تفهمه النخب واعتبرته تكبرا عن فرص العمل المتاحة في البلد، مع أنها لم تتح لهم أصلا. الحقيقة أن الشباب فقد الأمل، وأنها هجرة كرامة وخيار اضطراري، لأن الوطن لم يستجب لطموحاتهم، في ظل انسداد الأفق وانعدام الفرص.

الفساد والمفسدون، المصدر الأول لكل المصائب

بلا شك، يعتبر الفساد، الذي استشرى ووصل إلى مستويات قياسية، الخطر الرئيسي الذي يهدد بلادنا. والمؤشرات تثبت ذلك، كالعدد المخيف لصفقات التراضي، وغياب المساءلة والمحاسبة، والإثراء غير المشروع، وبذخ كبار الموظفين مما جعل من السياسة أسرع طريق للثراء، وإفلات المفسدين والفاسدين من العقاب وحتى من المساءلة، وضلوع العديد من المسؤولين العموميين، عن طريق مناصبهم وحاشيتهم المباشرة، في القضايا المشكوك بها.

فتعيين من يعتبرهم الموريتانيون رموز فساد العشرية، والذين تحوم حولهم شبهات فساد جسيمة، وتجديد الثقة بهم، من خلال تكليفهم بمصير البلاد ووضعهم في مراكز صناعة القرار، يعتبر صفعة لمصداقية الدولة واستقالة من مشروع الإصلاح، إن كان هناك أصلا مشروع إصلاح، وتحديا للعدالة، واستفزازا لمشاعر الشعب، وترسيخا لثقافة التملق، وتهديدا للمال العام، واحتقارا للكفاءات النزيهة التي تعج بها الإدارة، ودوسا على مبدإ المساءلة والمحاسبة، وتكريسا للإفلات من العقاب. إذ أنه لا أمل في التغيير ولا يمكن حتى بناء دولة، في ظل تمكين نخب همها الوحيد هو استغلال النفوذ وما يتيحه من فرص، والتي برهنت على فشلها طيلة العقود المنصرمة، فلا المؤشرات الاقتصادية تقدمت، ولا المشاكل المستعصية حُلت، ولا العدالة الاجتماعية تحققت.

كيف يمكن تكليف هذه النخب الفاشلة بالتحكم في صناعة القرار على مستوى الحكومة وفي مقدرات الشعب، وهي التي أثبتت عدم ولائها للدولة، عندما استماتت في خدمة الرئيس السابق، الذي يحاكم اليوم بشتى أنواع التهم، من فساد، وتضارب مصالح، واستغلال نفوذ، وثراء غير مشروع، والذي لم يكن ليقوم بهذا كله دون مساعدة معاونيه.

الحفاظ على النخب الفاسدة الموروثة من الأنظمة السابقة، التي أثبتت أنها غير قادرة على إحداث التغيير المنشود، واستمرار تكليفها بتسيير البلد، مع أنها تتحمل مسؤولية كبرى في ركوده وتدهور أوضاعه، في الوقت الذي تَوقّع فيه الرأي العام اجتثاثها، يغذي إحباطات الشعب، وسيؤدي، إن لم نعمل على تفادي تفاقمه، إلى انفجار غضب الشارع، وتأجيج المواجهة التي أصبحت اليوم واضحة المعالم، بين النخب الفاسدة من جهة، والشعب من جهة أخرى.

البلد على مفترق الطرق

تمر بلادنا اليوم بمرحلة مفصلية، فهي على مفترق الطرق، إما أن تقبل بالأمر الواقع، أو تقاوم هيمنة الفساد، لإعادة البلاد إلى مسار التقدم والتنمية. وذلك لن يتحقق إلا عن طريق إطلاق إصلاحات طموحة. فالإصلاح هو ثورة من الأعلى، ويبدأ بصياغة رؤية شاملة واستراتيجية مندمجة، بصفة تشاركية وبموارد كبيرة، تحقق قفزة نوعية في مجال التنمية، وتلبي الحد الأدنى من تطلعات المواطنين، بإطلاق مشاريع هيكلية لتحفيز التنمية وخلق الفرص لصالح الفئات الأشد هشاشة. وقبل ذلك، ونظرا لخطورة الموقف، يجب البدء بخطة طوارئ تعتمد على سلسلة من الإجراءات الفورية، لمعالجة الحالات المستعجلة والتصدي للإحساس بالغبن وانعدام المساواة.

فالصعوبات التي تواجهها بلادنا ليست مستعصية ما دامت هناك إرادة سياسية قوية لمعالجتها. في الحقيقة هي مشاكل حوكمة، ويمكن تلخيصها في ثلاثة أنواع من العقبات : مشاكل هيكلية، مشاكل في التسيير ومشاكل في اختيار الأشخاص. المطلوب في هذه الظرفية هو نهج أكثر شمولية لمعالجة كل هذه الأبعاد في وقت واحد. ولا يجب الاكتفاء بتدوير الأشخاص، أو تغيير المناصب، حسب منطق المحاصصة، فهذا ليس هو الحل المعجزة للمشكلات الهيكلية الموجودة على مستوى التسيير والإدارة.

إن الوضعية الحرجة للبلاد تستوجب رؤية إصلاحية جادة وبرنامجا متماسكا وطموحا، يوكل تنفيذه إلى نخب جديدة تشكل قطيعة مع حكومات “تصريف الأعمال” التي عرفناها حتى الآن، من أجل تحسين الحوكمة، وعصرنة الإدارة، وإصلاح العدالة، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، والقضاء على الفقر والبطالة، وحل المشاكل المتعلقة بالخدمات الأساسية، بدءا بالماء والكهرباء للجميع، وبناء نظام صحي وتعليمي فعال وبنى تحتية داعمة للتنمية.

لا بد من قرارات قوية، لنزع فتيل تراكم الإحباطات، واستعادة أسس العقد الاجتماعي، وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، من أجل حاضر أفضل لموريتانيا، وفق قيم المجتمع. هذا العقد الاجتماعي يجب أن يقوم على مشاركة جميع الفئات وعلى توزيع أكثر إنصافا للثروة، على أساس مبادئ المسؤولية والمساءلة