الفكر النهضويّ العربيّ بعيون المُستجِدّين د. كرم الحلو*

عرفَ الفكرُ العربيّ منذ السبعينيّات من القرن الماضي ما يشبه الارتداد إلى فكر النهضة العربيّة، بحثاً في هذا الفكر عن حلولٍ جاهزة لأزماتنا السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة الرّاهنة، وتأويل مقولاته تأويلاً مُعاصِراً يَستوعب التجدُّد والرّاهن، فتوالت الأبحاث والدراسات في الأفكار والمسائل التي طرحها النهضويّون، وصدرتِ الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي ومحمّد عبده وأحمد فارس الشدياق وجمال الدّين الأفغاني وعلي مبارك ورشيد رضا، إضافة إلى بعض كتابات فرح أنطون وأديب إسحق وخير الدّين التونسي.

لكنّ القراءات المُعاصِرة لفكر النهضة العربيّة سحبت تصوُّرات معاصرة على تلك المرحلة من تطوُّر الفكر التاريخي العربي، وجاء استخدامها في الغالب لدعْمِ أفكارٍ إيديولوجيّة راهنة وتبريرها. فكان من نتائج مثل هذه القراءات، فضلاً عن الإجحاف الذي ألحقته بالرؤية الإصلاحيّة العقلانيّة لفكر النهضة، تقديم صورة غير دقيقة وأحياناً شوهاء لمقاصد النهضويّين وأهدافهم الحقيقيّة.

في مقدّمة المسائل التي تمثِّل أنموذجاً لهذا الإشكال، مسألة الاشتراكيّة في الفكر النهضوي، فهل تطرَّق النهضويّون إلى هذه المسألة؟ وهل كانت فعلاً في أجندة اهتماماتهم وأولويّاتهم؟ في هذا السياق الإشكالي رأى حسين فوزي النجّار في سلسلة أعلام العرب أنّ فكر الطهطاوي "ينمّ عن اتّجاهٍ واضحٍ نحو الاشتراكيّة"، ورأى رفعت السعيد أنّ الطهطاوي "عاش سنوات يَختزن أفكاره الاشتراكيّة في قلبه... حتّى جهرَ بدعوتها سنة 1869". أمّا لويس عوض، فقد مالَ إلى الاعتقاد بأنّ "الرجل ربّما ذهبَ مذهب الاشتراكيّين المُعتدلين".

لكنّ كلّ هذه الاجتهادات والتأويلات لا تتطابق البتّة مع أفكار الطهطاوي وأهدافه الحقيقيّة. فالاشتراكيّة التي تعني الملكيّة العامّة لوسائل الإنتاج والمُساواة الاجتماعيّة الكاملة بين جميع أفراد المجتمع، تتناقض مع ما يدعو إليه الطهطاوي، وهو المساواة السياسيّة فقط، أي التسوية بين المواطنين أمام القانون وفي إجراء الأحكام؛ ولم يخطر بباله أن تكون المساواةُ اجتماعيّة واقتصاديّة. وقد عبَّر عن مقاصده هذه في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، حيث أوضح أنّ ما يدعو إليه هو "المُساواة قدّام الشريعة، والعدل في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور الحاكم على إنسان". أمّا ما عدا ذلك فالناس عنده متباينون في الصفات الطبيعيّة "وقد فضّل الله بعضهم على بعض في الرّزق"، الأمر الذي يُسقِط القول باشتراكيّة الطهطاوي.

في السياق التأويلي إيّاه، ذَهَبَ سامي الكيّالي إلى أنّ فرنسيس المرّاش "ذو نزعة اشتراكيّة"، واستنتَج عماد الصلح في "الشدياق.. آثاره وعصره" أنّ الشدياق "له شطحات ثوريّة فكريّة تَصِلُ إلى حدود الثورة الاشتراكيّة". واعتبرَ فوّاز طرابلسي وعزيز العظمة في التقديم للأعمال المجهولة لأحمد فارس الشدياق أنّ "الشدياق أوّل عربي يَعتنق المذهب الاشتراكي ويذهب به إلى أبعد حدود الالتزام"، من دون أن يُلاحِظا ما وَرَدَ في هذه الأعمال بالذّات من شجْبٍ للمبادىء الاشتراكيّة، حيث علَّق الشدياق على كومونة باريس الاشتراكيّة1871 بقوله عن الكومونيّين "كنتُ من أشدّ المُنكرين على هؤلاء العتاة تواطؤهم على مشاركة الأغنياء في أموالهم". كما انتقدَ مذهب الحزب الاشتراكي الذي "كاد يسري في هذه الأيّام إلى أحزابٍ كثيرة من أولي الصنائع والحِرف، فإنّهم كلّما تبطَّلوا عن العمل قامَ في خاطرهم أنّه يجب على الأغنياء أن يموّلوهم وعيالهم".

الحقيقة أنّ فكرة الاشتراكيّة كانت غريبة عن ذهنيّة نهضويّي القرن التّاسع عشر وهي لم تَدخل في نسيجِ الفكر العربيّ إلّا مع بداية القرن العشرين. ولم يكُن المرّاش والشدياق وإسحق من القائلين بالمساواتيّة الاجتماعيّة على الرّغم ممّا كانوا يبدونه من عطفٍ على الفقراء وإدانةٍ للظلم اللّاحق بهم. بل إنّ المرّاش أَدان بشدّة كومونة باريس ونَظَرَ إلى الحركات الشعبيّة في عصره باعتبارها فِتنةً لا ثورة.

وفي فكرنا النهضوي ثمّة استنتاجات بشأن القوميّة لا تتّفق مع حقيقة تفكير النهضويّين وتطلُّعاتهم. فقد رأى محمّد عابد الجابري في "الدّين والدولة وتطبيق الشريعة" أنّ شعار العلمانيّة طَرَحَهُ في العالَم العربي، مفكّرون مسيحيّون من الشام، في ارتباطٍ عضويّ مع شعار الاستقلال عن التُّرك، وبما أنّ شعار العلمانيّة كان يعني في الوقت نفسه قيامَ دولةٍ عربيّة واحدة، فقد ارتبطت المفاهيم الثلاثة بعضها ببعض ارتباطاً عضويّاً: العلمانيّة والاستقلال والوحدة.

من هنا كما تصوَّر الجابري، ارتبطتِ النهضةُ في ذِهنِ بطرس البستاني، كما في أذهان مفكّرين عرب آخرين، والمسيحيّين منهم بشكلٍ خاصّ، بالاستقلال عن التُّرك، ما يعني الانفصالَ عن الخلافة، وتالياً فصلَ الدّين عن الدولة. إلّا أنّ هذه القراءة للعلمانيّة في الفكر النهضوي تشكِّل رؤيّةً إيديولوجيّةً واهِمة لحقيقة الاتّجاهات النهضويّة وآليّة التفكير النهضوي. فالقول إنّ شعار العلمانيّة طُرِح بالارتباط مع شعار الاستقلال عن التُّرك، مُغايِر للواقع مُغايَرةً تامّة. صحيح أنّ مسيحيّي الشامّ هُم أوّل مَن طَرَحَ شِعار العلمانيّة (الشدياق، البستاني، المرّاش، أنطون)، لكن ليس صحيحاً ولا واقعياً ربْط هذا الشعار بأيّة خلفيّة قوميّة؛ إذ لم تكُن القوميّة العربيّة قد وُجدت بعد، وعندما وُجدت لم تكُن ذات تصوُّرٍ علماني، ولم تكُن هناك صلة بين القوميّة العربيّة وبين الطوائف على نحوٍ ضروري.

موقف النهضويّين من الغرب

من هذا المنظور يَرى المُستشرِق الروسي ز. ل. ليفين أنّه لا ينبغي المُبالَغة في الحديث عن عُمق الأماني القوميّة وقوّتها لدى العرب في المُقاطعات الآسيويّة من الإمبراطوريّة العثمانيّة، إذ إنّ هؤلاء كانوا لا يزالون، حتّى أواخر القرن التّاسع عشر، غير مُهَيَّئين للنزعة القوميّة بوجهٍ عامّ، وكانوا على المستوى السياسي يتصرّفون إلى حدٍّ بعيد، ليس بوصفهم مُمثِّلين لقوميّاتٍ مُضْطَهَدة، وإنّما بوصفهم عثمانيّين، رعايا للسلطان التركي وحُرصاء على مصلحة الإمبراطوريّة العثمانيّة. وخلصَ ألبرت حوراني في "الفكر العربي في عصر النهضة" إلى استنتاجٍ مُشابِه، إذ رأى أنّ "الاعتقاد أنّ النّاطقين بالضادّ يشكّلون أمّة، وأنّ هذه الأمّة يجب أن تكون مستقلّة ومتّحدة، لم يتّضح ويكتسب قوّة سياسيّة إلّا في القرن العشرين". ويرى حوراني أنّ بطرس البستاني كان يكتب كمواطنٍ عثماني، وسورية التي كان يتوجَّه إليها، لا تعني أكثر من وحدةٍ إقليميّة من ضمن الإمبراطوريّة العثمانيّة المتعدّدة القوميّات والإثنيّات والطوائف. وهذا ما انتهى إليه عزيز العظمة بقوله: "إنّ بطرس البستاني يرى في الرابطة العثمانيّة رابطة قوميّة، تتضافر مع الوطنيّة المحليّة السوريّة. وكان الجمْعُ بين الوطنيّة المحليّة السوريّة والمواطنة العثمانيّة، الطّابعَ الغالب على المثقّفين السوريّين المسيحيّين مثل المرّاش والشدياق وناصيف اليازجي وإسحق وأنطون. ولم يكُن الطّابع الغالِب على الخطاب السياسي لهذه الفئة من المثقّفين مُختلفاً عن الطّابع العامّ للتقدميّين العثمانيّين". وبالفعل قدَّم هؤلاء، وعلى أساس الرابطة العثمانيّة، المساعدة للمتنوِّرين العرب لإعادة تشكيل "الجمعيّة العلميّة السوريّة" في دَورها الثاني 1868، وتبنّوا مجلّة البستاني "الجنان" وحرَّروها من الرقابة، وأَسهم مدحت باشا في تحرير بعض أعدادها وكان الضيف الدائم لهيئة تحريرها في بيروت.

ومن المسائل التي لا تزال موضع لُبسٍ وتناقُض، موقف النهضويّين من الغرب. فقد جاء في "إيديولوجيا النهضة في الخطاب العربي المُعاصر" لرضوان جودت زيادة أنّ "رؤية فكر النهضة للغرب هي تسجيليّة تسليميّة"، ورأى علي محافظة في "حصيلة التنوير والعقلانيّة في الفكر العربي المعاصر" أنّ العقلانيّين العرب، بطرس البستاني، فرنسيس المرّاش، فرح أنطون وغيرهم، قد قلّدوا الغرب تقليداً تأثَّر بالفكر الفرنسي المُلحِد الذي كان يقوده أرنست رينان، وكان يرى في العِلم الأساس في بناء الفرد والمُجتمع، وأنّ أحمد فارس الشدياق وإبراهيم اليازجي وبطرس وسليم البستاني وأديب إسحق وفرنسيس المرّاش ساروا في هذا الاتّجاه العلمي العلماني.

تنطوي هذه الآراء على مُغالَطاتٍ كبيرة. فاللّيبراليّون العرب الذين ذَكرهم علي محافظة لم يكونوا مُقلِّدين تقليداً أعمى للغرب، بل كان موقفهم منه موقفاً نقديّاً. أُعجبوا بنهضته وعقلانيّته وحريّته ودأبه في العمل، وانتقدوا في الوقت نفسه مساوئه الاجتماعيّة والأخلاقيّة والتمدّنيّة. ولو عاد محافظة إلى رأي بطرس البستاني في التمدُّن، أو إلى كتاب "الساق على الساق" 1855 لأحمد فارس الشدياق، أو إلى "الدّين والعِلم والمال" لفرح أنطون، أو إلى مقال "التمدُّن المتوحّش" لفرنسيس المرّاش، لأَدرك جدّيّة الموقف النقدي الذي وقفه هؤلاء من عيوب الحضارة الغربيّة وأعطالها، ومدى إدانتهم لانحرافها في اتّجاه الحرب والجشع والظلم الاجتماعي، على الرّغم من انبهارهم بعمران الغرب وتقدُّمِه وقيَمِه اللّيبراليّة.

أمّا الاعتقاد بمُعاداة النهضويّين الذين ذكرهم محافظة للدين واستهانتهم به، فبعيدٌ عن حقيقة أهدافهم ومَراميهم، إذ إنّ هؤلاء جميعاً لم يكونوا علمويّين مُلحدين، وقد سبقوا فَرح أنطون 1874 - 1922 بزمنٍ طويل، وتوفّوا باستثناء اليازجي، حين كان لا يزال حَدَثاً. كلّ ما أرادوه هو فصْل الدّين عن السياسة وعدم استخدامه لأغراضٍ ومصالح خصوصيّة، إضافة إلى حقّ الاجتهاد والتأويل، الأمر الذي بات مَطلباً من مطالب العلمانيّة المُعاصرة، لا يتناقض في أيّ حالٍ مع المسلّمات الإيمانيّة والروحيّة.

كان جلال أمين قد تبنّى أيضاً في "قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المُعاصِر" المُغالطات ذاتها، إنْ لجهة موقف النهضويّين من الغرب أو لجهة موقفهم من الدّين، فرأى أنّ التنويريّين العرب أَخذوا مطلقات التنوير الغربيّة ونادوا بها عندنا أيضاً كمُطلقات، فعادوا ما عاداه التنويريّون البورجوازيّون في الغرب، وصادَقوا ما صادقوه، وعادوا الدّين واستهانوا به، وظنّوا أنّ تحرير المرأة عندنا يجب أن يكون نسخةً طبق الأصل عن تحرُّر المرأة في الغرب، وكذلك الملابس التي يرتديها الناس والمعمار الذي به يبنون بيوتهم.

ولو رجعَ جلال أمين إلى كتابات التنويريّين العرب بصدد الدّين والمرأة والتقاليد الاجتماعيّة لأَدرك أنّهم، باستثناء شبلي الشميّل، كانوا مؤمنين مُتديّنين، وأنّ الإلحاد بصورةٍ عامّة، كان غريباً عن فِكر النهضة العربيّة. فقد جَعَلَ البستاني والمرّاش الدّينَ دعامةً أساسيّة من دعائم التمدُّن، ولاذَ فرح انطون بالمبادىء الدينيّة في الدّفاع عن العدالة الاجتماعيّة وحقوق العمّال، وتوجَّهَ عداءُ الشدياق، على الرّغم من حدّته، إلى رجال الدّين واستبدادهم، لا إلى المبادىء الدّينيّة والمسلّمات الإيمانيّة. ولا يُمكن بأيّ حال تفسير اعتقاد المرّاش بإمكان التوصُّل إلى معرفة الله من خلال التأمُّل في الطبيعة وقوانينها، أو انتقاد الشدياق لرجال الدّين بالإلحاد. فالواقع أنّ القول بفصْل الدّين عن السياسة لم يكُن يهدف إلّا إلى إزالة أسباب النّزاعات الطائفيّة واللّامساواة السياسيّة في مُجتمعٍ مُتعدّد الأديان والمذاهب وممزَّق بالصراعات الطائفيّة.

أمّا قول أمين بتبعيّة التنويريّين المُطلقة للغرب فيُجافي الحقيقة كذلك، إذ إنّ هؤلاء قد حذَّروا من تقليدِ عادات الغربيّين من دون مُراجَعة وأَعربوا عن خشيتهم من اقتباسها كاملة. ولعلّ ما طرحوه بصدد تحرُّر المرأة وتعليمها ودَورها في المنزل والحياة الاجتماعيّة، خير دليل على تحفّظهم على مُطلقات التنوير الغربيّة وتفضيلهم الإصلاح التدريجي الذي لا يصدم البنية الاجتماعيّة العربيّة ويَستثير بالتالي رفضها ومُعارضتها.

لا نُريد من خلال هذه التصويبات التقليلَ من ثراء الفكر النهضوي وأهميّة الموضوعات التي طرحها، بل إنّنا على العكس، ندعو إلى استئنافِ الحراك النهضوي وإعادة قراءة هذه الموضوعات في إطارها التاريخي من دون إسقاطاتٍ مُخِلَّة، وبوصفها أفكاراً تاريخيّة في حقبةٍ تاريخيّة محدَّدة لا تَختزل التاريخ بل تَفتحه على المزيد من النقاش في خلفيّات النهضة العربيّة العاثرة.

*كاتب من لبنان