لم تزل نجمةً تتلألؤ في آذان مستمعيها منذ 38 عاماً، مخترقة ظلال السنين، لتظل نبرات صوتها متقدةً بالحيوية وممزوجة بالإيقاع المتلاحق لأزمنة التحول والإنشاء والأمل. وفي زمنها الخاص تصبح خلاصات التجربة ضرباً من الأسطورة الثرية التي توقد نار الإرادة والفعل، وتكتب تاريخ بدايات الأمس كأنه اليوم في كامل راهنيته. وتكمن الأهمية الخاصة لما تقوله الناها سيدي حول تلك التجربة، وهي تجربتها، في ثلاثة جوانب: الأول كونها أقدم وأشهر إذاعية في تاريخ الإعلام الموريتاني عموماً، إذ عاصرت المراحل المبكرة من عمر الإذاعة الوطنية الموريتانية وعايشت جيل الراود الأوائل من الإعلاميين ممن ظلت أصداؤهم تتردد في الذاكرة إلى غاية اليوم. أما الجانب الثاني فهو أن شجن «الملحمة» في سيرة الناها، السيدة التي ولدت وترعرعت وشبت وسط بيئة بدوية مترحلة، تمثل درساً فريداً في القدرة على التحدي وقوة الإصرار وصرامة العزم. فقد شقت طريقها بتصميم عصامي نحو تحقيق النجاح في وقت كانت فيه كل الظروف، الذاتية الخاصة والموضوعية المحيطة، لا تشجع بالمطلق امرأةً مثلها على الولوج إلى مجالات العمل الإعلامي الذي لم تكن البيئة الموريتانية قد عرفته أو خبرته من قبل. وثمة جانب ثالث لأهمية ما تقوله الناها سيدي يتأتى من أن هذه الإذاعية القديرة والواثقة من نفسها قد شهدت معارك البناء الأولى بُعيد إعلان الاستقلال وتأسيس الدولة وبداية التطور السياسي في البلاد.. لذا كانت مطلعة على كثير مما كان يدور في المستويات الرسمية العليا خلال تلك السنوات والعقود، إلا أنها مع ذلك حافظت على رصيد كبير من الاحترام خلال مختلف التحولات والعهود السياسية التي تعاقبت على البلاد. لكن الاحترام الحقيقي، في نظرها، هو ذلك الذي يكنه لها بسطاء الموريتانيين. وللكشف عما تحويه تحتها هذه الجوانب الثلاث، التقيناها في الحوار التالي:
س - ينظر إلى السيدة الناها الآن على أنها تمثل حياة إذاعية حافلة، امتدت واغتنت طول ما يقارب أربعة عقود من الزمن، كيف تلخصين محطاتها الأساسية؟
ج - كنت في البداية الأولى من حياتي التعليمية قد أكملت دراسة القرآن الكريم، وألممت بالمقررات الدراسية في «المحظرة»، وهي مدرسة أهلية بدوية تركز على التعليم اللغوي والأدبي والديني. في ذلك الوقت بدأت أستمع إلى الإذاعة الموريتانية التي كانت في مرحلة البث التجريبي من مدينة سينلوي السنغالية، لكني كنت أخفي ذلك. وكنتُ إذا ما سألني أبي أدّعي له بأني أستمع إلى إذاعة لندن أو صوت العرب، ولسبب ما لم أكن أجرُؤ على القول بأني أستمع إلى إذاعة موريتانيا، ربما لأن هذه التسمية التي كانت مستحدثةً وقتها، غير معروفة بعد، ولا هي محل اقتناع لدى الأغلبية ممن هم حولي على الأقل. كان ذلك قبل الاستقلال بنحو عامين، وتحديداً في عام 1958، كنت صغيرةً جداً لكني كنت أيضاً مغرمة بالإذاعة. في تلك السن المبكرة كانت أكبر أمنية لي أن ألتحق في يوم ما بالعمل الإذاعي. وفي بداية الستينيات انتقلتْ عائلتي إلى العاصمة نواكشوط، وفي ذلك الوقت اتصلت برجل معروف هو عبد الوهاب ولد الشيقر الذي كان مديراً للإذاعة الموريتانية، فوعدني بالموافقة على قبولي بعد ثلاثة أشهر، ولما حان الموعد أخضعني لاختبار بغية التأكد من قدراتي اللغوية ومعرفتي ببعض الأساسيات في التاريخ والأدب والجغرافيا. ومع أني اجتزت الامتحان بنجاح فقد أمضيت فترة ستة أشهر في مزاولة العمل التجريبي داخل الإذاعة، لكن تم رفضي لاحقاً على اعتبار أن مستواي في النحو كان أقل مما يجب، وربما لأن عربيتي غير مستقيمة رغم وضوح نبرات الصوت ورغم جودة الإلقاء. إلا أني أعدت الكرّة وخضعت للامتحان مجدداً، وفي النهاية تم اكتتابي فعلياً في أواخر عام 1964. وخلال عام 1965 كانت تجاربي كلها في الإذاعة فاشلةً، لذلك تم نقلي في بداية السنة التالية إلى إدارة الأنباء، ومقرها في بناية صغيرة وسط العاصمة، وكانت حينئذ تقوم مقام وزارة الإعلام اليوم. بيد أنه لم يمض وقت طويل حتى وقع علي الاختيار لأكون عضواً في المجلس الأعلى للنساء الذي تم استحداثه آنذاك. ثم حدثت تغییرات أخرى أُلغي بموجبها المجلس الأعلى للنساء، فطالبت بإعادتي إلى الإذاعة. وفي هذه المرحلة انصرفتُ إلى تعميق المعارف التي تلقيتها سابقاً في اللغة والأدب، وركّزت قراءتي في دواوین الشعر القديم. وبعد إجراء تجارب صوتية تحت إشراف مجموعة من المذيعين كان لهم مراس بالعمل الإذاعي آنذاك، نجحتُ أخيراً كمذيعة ربط وليس كمذيعة نشرات أخبار. كنت آخذ معي بعض الكتب وأواصل القراءة أثناء الليل وخلال أوقات الفراغ التي كرستها كلياً للدراسة. وفي هذه المرحلة تعلمت مبادئ فن الإذاعة وحاولت أن أطوّر مهاراتي في الإلقاء وإخراج الكلمات الصعبة وكل ما يتعلق بشؤون العمل الإذاعي وتجويد الأداء لدى المذيع. ثم سافرت إلى تونس وبغداد في دورتين تدريبيتين استغرقت كل منها ستة أشهر، وأخيراً بدأت أمارس العمل الإذاعي بمعناه الصحيح. ولم يمض وقت طويل حتى تم تعييني رئيسةً للتحرير، وكان ذلك وفي عام 1970، لكني لم أتوقف عن تقديم النشرات الرئيسية والبرامج الإخبارية الأخرى. وفي عام 1972 جری اختياري من طرف «حزب الشعب الموريتاني» الحاكم آنذاك باعتباري كاتبةً اتحادية لشؤون النساء في منطقة نواكشوط مع الأخت فيفي بنت فيجي.
لكن في سنة 1978 تغيّر النظام السياسي، وأُلغي الحزب. وفي هذه المرة حين عدت إلى الإذاعة عُهد إليَّ بقسم التنسيق العام، وهو قسم مكلف بالاستديوهات وكتابة أذونات التسجيل والإشراف على الأشرطة وفحصها وترتيبها وأرشفتها. ثم عدت إلى ممارسة العمل الإذاعي كمذيعة ومحررة ومقدمة لنشرات الأخبار الرئيسية. وبعد أن اكتمل تأسيس التلفزيون الموريتاني في عام 1981، نُقلت إليه إثر ذلك، حيث مارستُ عملي حوالي ست سنوات بصورة اعتيادية من خلال تقديم نشرات الأخبار يومياً على الشاشة، لكن مع الاحتفاظ في نفس الوقت بعملي في الإذاعة التي كانت مندمجة مع التلفزيون ضمن مؤسسة واحدة. وفي آخر عام 2000 تقاعدتُ من العمل في التلفزيون الذي انفصل عن الإذاعة، ثم عدت لأعمل في هذه الأخيرة، مثلما كنت سابقاً في التحرير وتقديم النشرات.
س - كان طريقك إذن محفوفاً بالمصاعب؟
ج - واجهتُ مصاعب كثيرة، بل إن الطريق الذي اخترته كان كله مصاعب ومعاناة، بعضها يعود إلى تكويني التعليمي الذي لم يكن ملائماً لهذا المجال الذي يحتاج تعليماً نظامياً حديثاً وقوياً، بينما دراستي كانت كلها تقليدية، وقد تلقيتها في البيت على يدي والدي. والبعض الآخر من تلك الصعاب يعود إلى نوعية الوعي السائد آنذاك، والنظرة إلى المرأة. فالمحيط الصحفي آنذاك رجاليٌّ كلُّه ما عدا سيدة واحدة تعمل في المجال الفني وليس لها علاقة بالصحافة. وقد تعرضتُ لانتقادات حتى من بعض الزملاء، بل ضايقني بعضهم وحاول إحباط همتي. لكن بتشجيع والدي ووقوفه إلى جانبي واستماعه إلى محاولاتي في التقديم الإذاعي وتشجيعه الدائم، اعتزمت مواصلة جهودي، رغم كل الصعاب. وفي المرحلة التي كنت فيها رئيسةً للتحریر، بدا من الصعب على بعض الزملاء أن يعملوا تحت إشراف امرأة رئيسة، وأن يقبلوا منها إعطاء رأي في النشرات، مع أن رئيس التحرير من مهماته الأساسية اعتماد نشرات الأخبار وتوقيعها. ومن الصعوبات التي ظلت تواجهني منذ البداية وحتى الآن كوني لا أستطيع القيام بأي عمل ما لم أفهمه جيداً وأستوعبه تماماً وأقتنع به، وما عدا ذلك أعترض عليه، ومن ثم فإن انتقادي لبعض الأخطاء واعتراضي على بعض الممارسات، كثيراً ما سبب لي بعض المشكلات العديدة.
س- لماذا كانت كل برامجك تقريباً من النوع الجاد والهادف، إخباريةً وسياسية؟ وما هو البرنامج الذي تعتبرينه الأهم والأفضل ضمن كل البرامج التي تعود إليك؟
ج- صحيح أني أميل إلى البرامج الجادة دون غيرها، وقد سبب لي ذلك مشاكل أحياناً مع بعض من رؤسائي في الإذاعة ممن يرغبون في تكليفي ببرامج المنوعات والتسلية. وقد قدّمت بعض البرامج والأعمال التي يعتبرها البعض مميزةً. ففي فترة ما قدَّمت برنامجاً اسمه «بصراحة» مدته خمس دقائق فقط، أتناول خلاله كل يوم موضوعاً أو قضيةً من القضايا التي تمس حياة الناس، اجتماعية كانت أم ثقافية أم حتى سياسية في بعض الأحيان.. وكان هذا في عهد الحكم العسكري. وجرّ لي هذا البرنامج مشاكل وانتقادات من بعض المسؤولين الرسميين الذين كثيراً ما أزعجتهم جرعة النقد في البرنامج وجرأته. بل إن الشرطة القضائية استجوبتني مرةً بسبب إحدى الحلقات التي تعرضت فيها بالنقد لشخصية سياسية بارزة في السلطة دون أن أذكر
اسمها.. وتدخل محمد فاضل ولد الداه الذي كان مديراً للإذاعة الوطنية وقتها، ومارس ضغوطاً قويةً لإنهاء المشكلة، وقال: «أنا مَن يتحمل المسؤولية وليس السيدة الناها». وقد كان قبلي يقدم المرحوم خي باب شياخ نفس البرنامج.
أما البرنامج الثاني الذي أتذكره فهو برنامج «صباح الخير»، وقد قدمته يومياً لمدة طويلة من الزمن. وكان هناك برنامج آخر هو «ضيف الأسبوع»، وكنت أستضيف فيه شخصية من نجوم المجتمع في أي مجال من المجالات. ومرةً في إحدى حلقات البرنامج كنتُ أنا شخصياً ضيفةَ الحلقة ومقدمتَها في وقت واحد، وقد استعرضت فيها مراحل حياتي.
وفي التلفزيون أنجزت فيلماً وثائقياً عن موريتانيا. ورغم أني قمت بإعداده في ظرف زمني ضيق بمناسبة انعقاد القمة المغاربية في الجزائر عام 1989، عندما كنتُ برفقة رئيس الجمهورية، إلا أن ذلك الفيلم الوثائقي نال إعجاب معظم الذين شاهدوه.
س- هل ميلك إلى البرامج الجادة هو منبع الاحترام الكبير الذي يكنه لك الموريتانيون؟
ج- هذا الجانب المتمثل في ميلي إلى البرامج الجادة، كثيراً ما كان أيضاً مدعاةً لاحترامي من طرف الأغلبية من المسؤولين الذين تر أسوا علي في الإذاعة.
س- في رأيك مَن أهم صوت من الأصوات التي عاصرتِها في الإذاعة؟
ج۔ هناك صوت جيد جداً ومهم للغاية وهو معروف على المستوى الوطني، وقد سبقني للعمل في الإذاعة، ذلك هو الدحن حمود. إنه صحفي له مواهب كبيرة، لكن البعض من أبناء الجيل المتأخر قد لا يعرفونه تماماً لأنه غاب عن الميكرفون بشكل مباشر منذ وقت طويل بعدما أسندت إليه مهام أخرى داخل الإذاعة. وهناك المرحوم خي باب شياخ، وهو الصوت الإذاعي الأول الذي حبب إليّ الإذاعة في الأصل. وأتذكر بعض البرامج التي كان يقدمها، ومنها برامج ثقافية ذات مستوى رفيع جداً، ومازالت محفوظة في أرشيف الإذاعة. وهو كاتب متمكن وصحفي من الطراز الرفيع، وكان له بحوث ومقالات شديدة القوة والكثافة، بعضها يقدمه أحياناً كمادة لبرامجه السياسية أو الثقافية. وإضافة إلى ذلك كان له صوت رائع، بل من النوع النادر جداً. ومن الذين أدركتهم وتأثرت بهم محمد محمود ولد ودادي، وكان هو كذلك صحفياً رائعاً ومقتدراً. لقد كانت ثمة آنذاك أصوات عديدة جيدة وأسماء ذات مواهب. وهناك المرحوم عبد الوهاب ولد الشيقر الذي كان مديراً للإذاعة وقت التحاقي بها، وإليه يعود الفضل في اكتتابي. كان مثَلي الأعلى في الالتزام الخلقي والمهني، وكنتُ معجبةً به إعجابي بباب شياخ، لأنه لم ينتسب إلى جامعة ولم يجلس في حياته على كراسي التعليم النظامي، لكنه رغم ذلك كان مثقفاً كبيراً، بل كان شخصيةً معجزةً، فهو صحفي ممتاز وباحث متعمق وسياسي محنك، وكان يتقن خمس لغات أجنبية. وعلى هذا الأساس اختير مترجماً خاصاً لرئيس الجمهورية وناطقاً رسمياً باسم الحكومة ومديراً عاماً للإذاعة الوطنية.
س۔ لدى التحاقك أول مرة بالإذاعة، هل كان مكان مقرها آنذاك هو نفسه مكان مقرها الحالي؟
ج- هو نفس المكان، إلا أن تغييرات كبيرة طرأت عليه في الوقت الحالي. كان مبنی صغيراً يتألف من طابق أرضي واحد وغُرف صغيرة وقصيرة، وكان متواضعاً للغاية. كان يضم حوالي 12 مكتباً، يحتل المدير والسكرتارية التابعة له 4 منها، ومكتب للفنيين، ومكتب للأخبار، وهناك استديوهين أحدهما للتسجيلات والثاني للبث المباشر. لكن شُيدت لاحقاً بناية جديدة بتمويل من ألمانيا والعراق، وهي ضخمة جداً في ذلك الوقت. وفي الوقت الحالي أصبحت المباني القديمة مقراً للإذاعة الريفية التي أنشئت حديثاً. أما المكاتب الجديدة فقد شغلتها الإدارات والأقسام والمراكز المتفرعة عنها. ورغم أن الإذاعة توسّعت وأصبحت ضخمة في الوقت الحالي، فإن المكاتب القديمة مازالت قائمةً كما كانت في وضعها السابق، لكن تم التوقف عن استخدام استديوهاتها، لأن أجهزة حديثةً متطورةً تم إدخالها وأصبح الحاسوب وسيلةً أساسيةً في العمل الإذاعي.
س۔ کانت لك أسفار إلى الخارج مع كل الرؤساء الموريتانيين تقريباً، هل تتذكرين مواقف لافتة للانتباه حدثت معك أثناء تلك الأسفار والرحلات؟
ج- سافرت إلى الخارج لأول مرة مع الرئيس الأسبق المختار ولد داداه، وكان ذلك في عام 1967، حيث زرنا تونس والعراق وسوريا، وكنتُ وقتَها عضواً في المجلس الأعلى للنساء وليس كإعلامية. لكنه ضمني إلى الوفد الإعلامي الذي يرافقه أكثر من مرة، فزرنا بلداناً عربيةً عديدةً مثل مصر وسوريا ولبنان وليبيا والأردن. وسافرت مع الرئيس السابق ولد هيدالة في زيارات إلى الداخل والخارج أكثر من مرة أيضاً. وسافرت مع الرئيس معاوية ولد الطايع في قمتين مغاربيتين، إحداهما في تونس والأخرى في الجزائر.
كان ولد داداه رجلا عطوف جداً، وكان يتفقد الوفد ويسأل عن أحوالنا خلال كل المحطات. مرة كنا في نجامينا عاصمة التشاد، فذهبت أنا وإحدى زميلاتي في الوفد الرئاسي نفتش عن أسرة موريتانية لنغير الجو ونقضي وقتاً لتناول الشاي الموريتاني، فاهتدينا إلى حانوت صغير يملكه موريتاني في ضواحي المدينة. وفي هذا الأثناء سأل الرئيس فلم يجدنا، وبعد ذلك كثيراً ما كان يمازحنا ويقول: هل يستحق الشاي كل هذا البحث؟ ومَن فينا يدفعه «صداع الشاي» إلى المخاطرة بالتخلف عن وفده؟! ومرةً قلت له إني لا أرتاح في مثل هذه السفريات لأن تكرارها متعب، فضحك وقال لي: إذا لم تتعودي أو لم تعجبك البعثات فاستريحي متى شئت، وإذا رغبت ثانية أخبريني عندئذ. وأتذكر أيضاً عندما كنا في زيارة لمصر، أخذونا في رحلة إلى الأهرامات، وكان على رئيس البرلمان آنذاك عبد العزيز صال، وهو الشخصية الثانية في الوفد، أن يصعد مباشرةً بعد رئيس الجمهورية، عبر سلم ضيق، لكن عبد العزيز كان ممتلئاً
وضخم الجثة، فانزلق من خشبة السلّم ليقع في هوة عميقة نحو الأسفل، فذعر وأخذ يصرخ ويدفع برجليه إلى الأعلى، لكن بطنه كانت تمنعه من النهوض بسرعة، وفي الأثناء هم الرئيس بإنقاذه قبل أن يتدخل حراس الأمن المصري لإخراجه من الهوة. في ذلك اليوم رأيت الرئيس المختار يحاول أن يكتم ضحكه، وبعد ما عدنا من مصر كان يداعب صال ويسأله: قل لنا ماذا جرى في الأهرامات؟
س- إلى جانب العمل الإذاعي، اشتغلتِ أيضاً لبعض الوقت بممارسة النشاط الحزبي والسياسي، كيف ومتى كان ذلك بالضبط؟
ج- في سنة 1967 بدأت السيدة الأولى في البلاد تبحث عن طريقة لتشكيل اتحاد أو منظمة نسائية، فكنت من بين ثلاث نسوة وقع الاختيار عليهن رغم صغر سني في ذلك الوقت، أنا والسيدة عائشة كان والسيدة توكل سي التي كان زوجها عبد العزيز صال رئيساً للبرلمان. وعضوات المجلس الأعلى للنساء هن تلقائياً عضوات استحقاقيات في المكتب السياسي لحزب الشعب الموريتاني. لكن المجلس أُلغي بعد فترة ليست بالطويلة، فعدت إلى الإذاعة. وفي عام 1972 استحدث الحزبُ منصب كاتبات اتحاديات إلى جانب الكتاب الاتحاديين المسؤولين عن العمل الحزبي في مناطق البلاد، فجرى اختياري كاتبة اتحادية لنساء منطقة العاصمة. كنت أدير الكثير من مراكز الترقية النسوية وأقوم بالإشراف على إنشاء وتمويل التعاونيات والمنظمات الأهلية، وكان لدي العديد من الأنشطة والمهرجانات التي أشرح خلالها البرنامج الاجتماعي للحزب وأيديولوجيته التي توجه سياسة الدولة. وكان معنا في ساحة العمل الحزبي رجال من نجوم المجتمع ووجوهه البارزين، أذكر منهم مثلا محمد ولد خيار وهو سياسي محنك ورجل عصامي معروف. وكذلك ببها ولد أحمد يوره.. وغيرهم من الساسة والمسؤولين الرسميين.
س۔ كان انقلاب 10 يوليو 1978 لحظة فاصلة بين عهدين سياسيين، وكنتِ نجمة الإعلام الإذاعي في عهد النظام المطاح به، كما كنتِ إطاراً نشطاً في حزبه الحاكم.. كيف ومتى علمت بالانقلاب؟ وهل كان للعسكريين موقف تجاهك شخصياً؟
ج۔ وقت الانقلاب كنت خارج العمل الإذاعي، بل كنت خارج البلاد في أحد المؤتمرات النسوية التي اعتادت الحكومة أن تنتدبني لها. لكني كنت أتابع الحدث الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية. لم أكن مسرورة إطلاقاً بما جرى، فلسنا واثقين من طبيعة النظام الجديد، وما إذا كان أفضل من سلفه أم لا، خاصة أن لدي ارتباطات على أكثر من مستوى مع الحكومة المطاح بها، ومن ثم كنتُ متضايقةً بعض الشيء مما حدث. لكني تقبّلت الأمر كما تقبّله كل الموريتانيين في ذلك الوقت. وبعد الانقلاب بدأ نظام جديد، وتم حل جميع المنظمات وعلى رأسها الحزب بطبيعة الحال. وعدت إلى الإذاعة ومارست فيها عملي بصورة طبيعية جداً، ولم ألاحظ من طرف النظام الجديد أي موقف ضدي، إن لم يكن الأمر عكس ذلك.
س- هناك حدث دموي عرفته البلاد، كانت الناها شاهداً على جانب منه، وهو محاولة الانقلاب المعروفة في 16 مارس 1981. الانقلابيون استولوا على الإذاعة في ذلك اليوم وكنتِ موجدة فيها، فما الذي حدث بالتفصيل؟
ج- في الساعة الثامنة بالضبط من صبيحة ذلك اليوم، كنتُ أدخل إلى مبنى الإذاعة، فسمعت إطلاق نار في كل الجهات تقريباً. علّق أحد الموظفين ساخراً: إنه انقلاب! لم يكن أحد يصدّق إمكانية حدوث شيء من هذا القبيل، لكني قلت للموظف: إن هناك انقلاباً بالفعل أو شيء ما قريب من ذلك. وفي الوقت الذي كنت متوجهة نحو الاستديو، شاهدت أربع سيارات عسكرية وصلت باب الإذاعة. ترجل العسكريون الذين كانوا متنها وأعطوا أوامر فورية لكل الموظفين بالدخول إلى مكاتبهم، وكانت معهم، على ما يبدو، أربعة أسماء نادوا بها لتذيع البيان رقم واحد، كنت أنا واليدالي الشيخ لنذيع البيان باللغتين العربية والفرنسية، واثنين آخرين ليذيعانه باللغات الوطنية. طلبوا منا الوقوف نحن الأربعة على جانب. سلمونا البيان رقم 1، ووجهوا إلينا أمراً
بإذاعته فوراً، وكانت الإذاعة في تلك الفترة تفتح من الزوال حتى قبيل العصر، وساعات محدودة من الليل. وقد ساعدني ذلك على أن أناقش الانقلابيين، فقلت لهم إن الإذاعة مغلقة، وإن المدير العام ليس موجوداً، وكذلك المدير الفني الذي يملك وحده صلاحية فتحها.
س- مَن فيهم بالضبط كان يكلمك؟
ج- كان يكلمني أحدهم لا أعرفه، لكن أحمد سالم ولد سيدي كان يقف قريباً منا، وقد كلّمني، وهو قائد الفرقة التي جاءت إلى الإذاعة، وكانت مهمته أساساً أن يشرف على إذاعة نُسخ البيان رقم واحد بنفس الترتيب ومن خلال نفس المذيعين الأربعة. وفي هذه اللحظة دخل المدير الفني لسوء حظه، فأخذوه بعنف ووجهوا لها أمراً قاسياً بفتح الأجهزة، فقلت لهم إنه حتى لو فتح الإذاعة فإن ذلك لا يحل كل المشكلة، لأن المسؤول الفني في مركز البث الخارجي الذي يقع خارج العاصمة، لا بد أن يكون لديه علم، كما أن الأجهزة تحتاج إلى وقت للتسخين. وفي هذا الأثناء استطعتُ أن أسرّب خبراً عما يجري داخل الإذاعة، فجاءت فرقة كوماندوز عسكرية ودخل أفرادُها الإذاعةَ بعد أن اشتبكوا مع الحراس الذين وضعهم الانقلابيون عند الباب. فتفاجأ العسكريون الآخرون الموجودون معنا في غرف الأخبار بدخول الفرقة التي ألقت عليهم القبض. لم يحدث إطلاق نار، فقد وجه أفراد الفرقة أسلحتهم نحو الانقلابيين مباشرة، فحدث اشتباك سریع بالأيدي. أمسكوا بأحمد سالم ولد سيدي الذي لم يتمكن من إطلاق النار، وبعد أن قاوم
باستماتة تمكنوا من السيطرة عليه، ونزعوا اللثام الذي كان يلف به رأسه فأوثقوا به يديه وراء ظهره. وهكذا انتهت العملية وتمت السيطرة على الموقف وفشل انقلاب كانت أهم خطوة فيه عملية الاستيلاء على محطة الإذاعة.
س- وخلال ذلك كيف كانت تبدو لك تعبيرات وجه الكونونيل أحمد سالم ولد سيدي؟
ج- لم تكن ملامحه تعبّر إطلاقاً عن الارتياح أثناء اشتباكه بالأيدي مع فرقة التدخل العسكرية القادمة، لقد أوقعوه بعنف فارتطم وجهه بالأرض، وسحبوه بالقوة إلى سيارات عسكرية تنتظر عند باب الإذاعة. لكن لدى دخوله في الدقائق الأولى كان يبدو ثابتاً وصلباً، وكان يخطو خطوات عسكرية واثقة.
س- عندما اقتحم الإذاعة، هل تعرفتِ عليه بسرعة أم تفاجأت بوجوده في نواكشوط، إذ أنه كان في بلد آخر؟ وهل دار بخلدك أن الأمر يتعلق به وحده؟
ج- هو أصلا شخص مشهور ومن عائلة أميرية معروفة، وهو وزیر سابق، ومن ثم أعرفه عندما كان مسؤولا حكومياً كبيراً. بطبيعة الحال لم يكن وحده، فقد كان معه كادير، ومجموعة كبيرة، كانوا يعارضون النظام الحاكم آنذاك ويقيمون في بلد آخر، ومن هناك خططوا لعملية كوماندوز للإطاحة بحكومة ولد هیدالة. لكن الانقلاب فشل، وتمت السيطرة على المجموعة التي توجهت إلى قيادة الأركان، والمجموعة الأخرى التي اقتحمت الرئاسة، ولم يذع أي بيان من جانب الانقلابيين، وتم اعتقالهم جميعاً. لكني بالفعل فوجئت بوجود الرجل، وتساءلت بيني وبين نفسي: متی وكيف عاد من الخارج؟
أجرى المقابلة/ محد المنى أبوظبي/ نقلا من صفحته على الفيس بوك2002