لا يدري المرء من أين يبدأ، حينما يريد الكتابة عن شخصية بحجم شيخنا حمدن ولد التاه، طيب الله ثراه.
وسأكتفي الآن بالحديث عن أيام معدودات نلتُ شرفَ ملازمته خلالها في مدينة القيروان التونسية، في فبراير/شباط، من العام 1995م.
(الصورة المرفقة تخلد لحظة من لحظات تلك الأيام الجميلة، وكنت ألبس الزي الخليجي).
كنت حينئذ أعمل (باحثا) في إدارة الإفتاء والبحوث التابعة لحكومة دبي، فأوفدتني لأشارك باسمها (للعام الثاني على التوالي) في ملتقى علميّ كان يعقد سنويا في مدينة القيروان، حول المالكية والمذهب المالكي وأعلامه.
وفي دورة فبراير 1995: حضر العلامة حمدن ولد التاه، ممثلا بلادَنا حرسها الله.
وعندما لم أر اسمه الكريم ضمن لائحة الباحثين المحاضرين سألته قائلا:
ألم تُعِدّوا بحثا ليناقش في الملتقى ثم ينشر؟
فأجابني بأن وزارة الشؤون الإسلامية في بلادنا لم تخبره بأنه اختير لتمثيل موريتانيا إلا قبل سفره بيومين، وأنه أمضى اليومين في إجراءات السفر!!
عجبت لذلك، فالمشاركون مكثوا ثلاثة أشهر وهم يستعدون للحدث، وأرسلوا بحوثهم إلى إدارة الملتقى قبل وصولهم إلى تونس بأسابيع...
وإن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ أمرُ شيخنا حمدن ولد التاه، الذي استطاع خلال أيام المؤتمر الثلاثة المشحونة جدا: أن يُعدّ مشاركةً شهد جميع الحاضرين بأنها كانت أفضل ما قُدّم في ذلك الملتقى!
كانت محاضرة العلامة حمدن ولد التاه: مسك ختام الملتقى، علما بأن من بين المشاركين:
▪︎ علماء أجلاّء من شيوخ الأزهر والزيتونة والقرويين ورابطة العالم الإسلامي؛
▪︎ وباحثين طبّقت شهرتهم الآفاق؛ لكثرة مؤلفاتهم، من المشارقة والمغاربة والأوروبيين.
وقد شارك في تَيْنِكَ الدورتين (1994 و 1995م) موريتانيون يمثلون جهات غير موريتانية:
■ فبعثت أبو ظبي ممثلها: شيخنا العلامة/ الشيباني محمد أحمد النجمري الشنقيطي، صاحب كتاب "تبيين المسالك" الذي ربما لا أبالغ إذا قلت إنه أفضل كتاب صدر في الفقه المالكي في القرن العشرين، لما فيه من بسط الأدلة، بعبارة سلسة؛
■ وجاء حبيبنا، صاحب السماحة، الشيخ/ الخليل النحوي، ممثلا المنظمةَ العربية للتربية والثقافة والعلوم؛
■ وشرفتني إمارة دبي حين أوفدتني لتمثيلها في الملتقى.
وفي ختام الملتقى: شرفني الله بأن جلست مع نخبة من العلماء والمفكرين، وأخذنا إجازة في صحيح البخاري، على شيخنا الكتاني، محدث المغرب الأقصى..
وكان العلامة حمداً هو الذي قرأ الحديث الأول: "إنما الأعمال بالنيات"، وكان الشيخ الخليل النحوي هو الذي قرأ الحديث الأخير: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
وبعد أن عُدنا إلى تونس العاصمة: ألقى شيخنا حمدن ولد التاه محاضرة في جامعة الزيتونة مزجت بين العلم والفكر والأدب.
ولكنّ أحد طلبة الدكتوراه، من الحداثيين، تدخّل وقال: إن علماء موريتانيا يعيشون خارج التاريخ ولا يهتمون بما يجري في العالم.
وكنت على المنصة، أنا والعلامة حمدن، والشيخ الخليل النحوي، ومعنا بعض كبار مسؤولي الجامعة، وأذكر منهم: أخي الأستاذ الدكتور/ بو لبابة حسين...
فأخذتُ الميكروفون، وفنّدت ما قاله ذلك المتدخل المسيء، واستأذنت في إلقاء بعض قصائد العلامة حمدن ولد التاه، فأعجب الحاضرون بها أيّما إعجاب، وخصوصا: القصيدة التي يشجع فيها فريق المملكة المغربية لكرة القدم، ومطلعها:
تحية لفريق أمره عجبُ •• فازت به القارة السمراء والعرب
وفيها يذكر حارس المرمى، فيقول:
قد كان قلبي بجنب الزاكِ(ي) يحرسها •• كأنها قطعة من جلده تثب
ثم ألقيت عليهم قصيدته حول مضيفة الطائرة، واختباره زميلَه العلامة محمد سالم ولد عدود، فوقف الحاضرون، وظل المدرج يعج بالتصفيق دقائق معدودة، إعجابا بفتوّة هذا الشيخ الموريتاني الموسوعي الذي تحقق فيه معنى العالم الرباني، كما قال ابن عباس، في تفسير قول الله تعالى:
{ولكن كونوا ربّـٰـنـيّـيـن}
قال ابن عباس:
"الرباني: العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، العارف بأنباء الأمة، وما كان وما يكون".
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وباسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى:
أن يرحم شيخنا حمدا ولد التاه، وأن يقيه فتنة القبر وعذاب النار، وأن ينزله منازل المقربين الأخيار، في الفردوس الأعلى من الجنة.
اللهم أحسن فيه العزاء، وبارك في ذريته ووطنه وأمته.. إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.