رحلْتَ.. ولمْ ترحلْ، فإنّكَ باقِ
بأعْماقِ أهْل العِلْم.. يا أيها الراقي
فما كنْتَ عبَّاسا، أمامَ مَجامعٍ
تَحُجًّكَ "طُلَّابا"، فتلقى بإشْراقِ
فكمْ قدْ زهتْ غُرُّ المَنابرِ؛ أنْ رَأتْ
مُحَيَّاكَ.. فيَّاضا، بعِلْمٍ.. وأخْلاقِ
لقدْ عِشْتَ عُمْرًا واسِعا.. قد زَرَعْتَهُ
مآثرَ، لمْ تذبُلْ، فأنْتَ- بها- باقِ
بفكركَ.. قد أحْييتَ "أندلسَ" الرُّؤى
ومنْه سقى "الصحْرا- ثقافتَها"- ساقِ
بكَ "الأدَبُ" النَّائِي بـ"ِمَغْرِبِهِ" ارْتقى
فأنْتَ العميدُ المُزْدَهِي كلَّ سبَّاقِ
عليكَ بكَى "الملْحُونُ".. و"الزَّجَلُ" انتهى
وها نَسَقُ "التوْشيحِ"، مُخْتَلّ أنْساقِ
و"فَنِّيَّةُ التعْبير" قد جفَّ نبْضُها
و"معركة التغيير".. قامتْ.. بلا ساقِ
سيبكي "خطاب المنهج"،" الوحدة" التي
بـ"حرية الآداب" شبت عن أطواقِ
وهذي "فلسطين" الجريحة، قد بكت
عليك/عليها، إنك البلسم الراقي
إليكَ "ابْنُ زيْدونَ"، "ابْنُ زيْدانَ".. طالَما
لدَى الخْلْدِ.. و"اليُوسِيُّ.. ضجُّوا بأشواقِ
وإن "الأمير الشاعر"، الآن.. يزدهي
بروح أمير النقد.. ألطف عملاق!
فعشْ.. في جِنان الله.. يا رجُلا.. مضى
جميلا.. وخَلَّى القبْحَ.. والحُزْنَ.. للباقي
لهذا الراحل إلى مغفرة الله منة في عنقي لن أنساها أبدا، فهو الذي فتح لي باب الدراسات العليا في المملكة المغربية، بعدما استعصى انضمامي- رسميا- إلى "وحدة أساليب الكتابة في الغرب الإسلامي"، بكلية الآداب، في جامعة محمد الخامس بالرباط، فقد وجدت ملفي مسجلا بهذه الوحدة، لكن عمادة الكلية اعتذرت عن الموافقة على تسجيلي رسميا، بكوني جئت متأخرا كثيرا عن افتتاح العام الدراسي، وخلال انتظاري لانفتاح نافذة أمل في حل مشكلتي، واصلت حضور الدروس مع الطلاب الرسميين، حوالي شهرين أو ثلاثة، حرصت من خلالها على التعرف على الأساتذة، والتعريف بنفسي عمليا، من خلال المشاركات، والنقاشات، الدراسية، حتى كانت عطلة شهر مارس، والامتحان النهائي قادم بداية الشهر السادس، وأنا معلق بين اليأس، والرجاء، هنا اقترح علي أحد الزملاء أن يذهب معي إلى دار الدكتور عباس الجراري، لعلي أجد فرصة لمقابلته، فهو كان – قبل تقاعده- رئيس الوحدة التي أنا معلق فيها بين الرفض، والقبول، والمشكلة- حقيقة- ليست في رئيسة الوحدة، ولا في أساتذتها، فكلهم أعربوا عن رغبتهم في تسجيلي رسميا، لكن القرار بيد إدارة الكلية...
وصلنا إلى دار الجراري، عصرا، ووجدنا الباب مغلقا، وعندما رن الجرس، خرج إلينا أحد عمال المنزل، وقال: إن الأستاذ نائم، لكن يمكن أن تتركوا له رسالة مكتوبة حول حاجتكم، توكلت على الله، وجلست على الرصيف، أكتب رسالة، حول الموضوع، ختمتها بأبيات عادية من الشعر، تحت ضغط أفق الانتظار، السائد عن الموريتاني، أنه إنسان ناطق بالشعر، ختمتها ببيتين سخيفين لا زلت أذكرهما:
خذوني.. أسرةَ الأدب المصفّى*** فحرْماني حرام، والنّبِيِّ
ولا تخشوا رسوبي في امتحان*** فما أنا بالكسول، ولا الغبيِّ
وسجلت رقم هاتفي
ثم عدنا أدراجنا.. وأنا لست واثقا من أن الرسالة ستصل، إلى الدكتور، وليس لدي كبير أمل في أنها إن وصلته سيفتحها، فكم عنده من شواغل أهم من ذلك، وحتى لو قرأها- افتراضا- فليس هناك ما يدعوه إلى الاهتمام بها، فهو ليس له علاقة مباشرة بالموضوع، وحتى لو تجاوب معها، بكرمه، ونبله، وأستاذيته، وأبوته لأجيال الباحثين والطلبة، فما كنت- أيضا- أتوقع أبدا أن تكون عنايته بها، على ذلك القدر من جلال التواضع، وجمال الخلق، ونبل الموقف، فأنا طالب جامعي مجهول لديه، وهو من هو في مركزه العلمي، والرسمي، فقد كان يومها مستشارا للملك..
يا لهول المفاجأة.. بعد صلاة المغرب رن هاتفي، وجدت رقم تلفون ثابت يتصل بي: السلام عليكم.. هذا السي أدي ولد آدب؟ معك عباس الجراري... هكذا.. بكل بساطة وأريحية...
وفي غمرة ترحيبي المذهول.. أمام هذا الاتصال المبهر.. قال لي سأكلم رئيس الجامعة، في أمرك، فور عودته، فهو الآن مسافر خارج البلد في مهمة قد تطول بعض الوقت، فهمت أنه لا يريد التواصل مع العميد الذي سبق أن رفض تسجيلي...وغمرني الفرح والإعجاب بجمال التلقي في حد ذاته، دون تعليق كبير أمل على ما بعد ذلك، فهذا الموقف وحده يكفيني، وقررت أيضا أن لا اتصل عليه مرة أخرى...حتى ولو لم يتصل...لكن الرجل تمادى في نبله المذهل، وكرمه الأصيل، فقد طال غياب رئيس الجامعة شهرا وزيادة، لكن صوت الأستاذ العميد عباس الجراري، كان يتعهدني هاتفيا، بين الفينة والأخرى، ليبرهن لي على أنه لم ينس موضوعي، ولم ينشغل عنه، بشواغله الجمة المهمة، وفور رجوع رئيس جامعة محمد الخامس إلى الرباط، جاءني صوت المرحوم المحبب: غدا تذهب إلى رئاسة الجامعة، وتقول لهم: إنك أتٍ من قِبَلي.
وعندما وصلت مكتب الرئيس، وقلت للخزنة: إني أريد الدخول عليه، نظروا إلي مستغربين، وربما مستهزئين، فأخبرتهم أني من طرف الأستاذ عباس الجراري، فكانت تلك كلمة السر التي فتحت لي الباب على مصراعيه، إلى الرئيس مباشرة، عندما قابلته، قال لي: اذهب غدا إلى عمادة الكلية سيسجلونك، رغم قناعتي بأنك لن تستطيع النجاح؛ لأن الامتحان لم يبق دونه إلا شهر ونصف تقريبا، لكن طلب الدكتور الجراري لا يرد، فأكدت له أنني سأنجح، بدون شك، ولن أخذل موقفه، وموقف الجراري معي....أخيرا فرجت.. "وكـ(د)ـت أظنها لا تفرج".
بدأ التحدي... سجلت، وانخرطت في إنجاز بحث لكل أستاذ، في مادته، فأعانني الله على إنجاز ثمانية بحوث كانت مرضية، خلال شهر واحد تقريبا.. وبعدها مباشرة.. أجرينا الامتحانات النهائية، فكان أخر طالب تسجيلا في الوحدة، هو الرقم الأول من صفه، في السنة الأولى، وفي السنة الثانية، وفي بحث الماجستير، ثم في الدكتوراه، بعد ذلك بسنوات.. وأتاحت لي الفرص إثر نجاحي المتفوق في السنة الأولى أن ألتقي كلا من الأستاذ الجراري، ورئيس الجامعة، وقد بشرتهما بأني لم أنجح فقط، وإنما كنت الرقم الأول.. ففرحا بذلك، واستغرباه...
وبعد نشر دائرة الثقافة بالشارفة لبحثي في الماجستير : الإيقاع في المقامات اللزومية للسرقسطي 2006، اقترح علي بعض الزملاء ترشيحه لجائزة الشيخ زايد للكتاب، فكان من شروط الترشيح ثلاثة تزكيات علمية، فأرسلت إلى صاحب الفضل في دراساتي العليا، وفي إعدادي لهذا البحث، رسالة ألتمس منه تزكية الكتاب للترشح، فقام بذلك على أحسن وجه، بأريحيتة المعهودة؛ ولهذا فإنني ال أرى أن موقف الدكتور الجراري معي يومها، كان له ما بعده، فكل ما حققته- بفضل الله- من مواقع بين الباحثين، وما نشرته من منجز أدبي، وصل حتى الآن19 منشورا، ما بين، ثمانية دواوين، وأحد عشر دراسة، وما سوف أنشره- إن كان في العمر بقية- هو راجع إلى استجابة نبيلة من هذا المرحوم، لم يكن هناك- غير جوهره الخلقي الفريد- أي سبب خارجي يدفعه إليها.. جزاه الله خيرا، وبوأه الفردوس الأعلى مع النبيئين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
أدي ولد آدب