عبارة “ما بعد الصهيونية Postzionism” تفرعت عن مدرسة المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين نسفوا السردية الرسمية الإسرائيلية، وقد تعرضنا في الأسبوع الماضي إلى جوانب من إسهاماتهم البحثية والعلمية.
وهكذا أصبح تيار “ما بعد الصهيونية” اتجاهًا فكريًّا واسع التأثير في الساحة الثقافية، رغم انحسار زخمه السياسي في السنوات الأخيرة التي هيمن فيها التيار اليميني المتشدد والصهيونية الدينية الصاعدة.
حسب الاستطلاعات الأخيرة في المجتمع الإسرائيلي، نلاحظ تصادم ثلاثة اتجاهات متمايزة هي:
الصهيونية الاشتراكية العلمانية التي أسست الدولة، وحكمت البلاد عقودًا طويلة قبل وصول حزب الليكود اليميني إلى السلطة سنة 1977. ضعف تأثير هذا التيار الذي ينحصر وجوده في بعض الأحزاب اليسارية الصغيرة التي تتبنى الحل التفاوضي السلمي للموضوع الفلسطيني.
“الصهيونية المراجعة Revisionist” أو “الصهيونية الجديدة “Neo-Zionismحسب تعبير عالم الاجتماع الإسرائيلي أوري رام، وهي التي تتبنى مشروع الدولة الموسعة على عموم أرض فلسطين التاريخية وتقوم على مفهوم الدولة- الأمة اليهودية الذي اعتمدته حكومة اليمين المتطرف الحالية.
اليسار البديل غير الصهيوني الذي يدعو إلى تجاوز الأيديولوجيا الصهيونية بصفتها صارت عبئًا ثقيلًا على المجتمع الإسرائيلي ولم تعد تلائم حقائقه الراهنة .
في هذا الاتجاه الأخير، يمكن أن نصنف رجل السياسة المعروف أبراهام بورغ الذي ترأس الكنيست من سنة 1999 إلى سنة 2003 وكتب كتابًا هامًا بعنوان “الانتصار على هتلر Defeating Hitler” بين فيه أن مشروع الصهيونية التاريخي انتهى ولم يعد بالإمكان إحياؤه وقد تم استبداله بمشروع عنصري ديني يقوم على الهوية القومية اليهودية المغلقة التي هي نمط من الغيتو الذي أرادت الصهيونية الأصلية تحرير “الشعب اليهودي” منه .
بالنسبة لبورغ، إن تحديد إسرائيل بكونها دولة يهودية هو “مفتاح ضياعها” وسيؤدي إلى نسفها والقضاء عليها، إنه رجوع للسياسة النازية في التعامل مع اليهود من حيث هم شعب يجب سجنه في هوية عازلة. ومن هنا لا يتردد بورغ في القول إن ما تعيشه إسرائيل اليوم هو تصادم اليهودية من حيث هي معتقدات وقيم مع الواقع السياسي، فلقد حولت الصهيونية اليهودية إلى “عبادة الشجر والحجر” بدل أن تكرس ما يعتبره بورغ الجوهر الأخلاقي في اليهودية.
في هذا السياق، يتأسف بورغ على أن المشروع السياسي لهرتزل (إنشاء دولة قومية لليهود) قد انتصر على المشروع الروحي لآحاد هعام الذي كان يسعى إلى بناء مركز روحي في فلسطين بدلًا من الكيان السياسي القومي.
كتب أبراهام بورغ في صحيفة لموند الفرنسية (بتاريخ 10/9/2003) أن “الصهيونية ماتت”، بعد أن انهار المرتكزان اللذان كانت تقوم عليهما وهما: التطلع إلى العدالة والأخلاق المدنية. لم تعد الأمة الإسرائيلية حسب عبارات بورغ سوى “ركام لا شكل له من الفساد والقمع وغياب العدالة”، بما يعني أن “نهاية المغامرة أصبحت وشيكة”، وأن الجيل الحالي قد يكون آخر أجيال التجربة الصهيونية.
يصف بورغ نفسه بأنه ما بعد صهيوني، ويرى أن الصهيونية أثبتت فشلها العملي، ولم يعد من الممكن الاستمرار في تبنيها.
من أهم ممثلي تيار ما بعد الصهيونية في إسرائيل عالم السياسة “زئيف سترنهل” (المتوفى سنة 2020) الذي أصدر كتابًا هامًا بعنوان “تأسيس أساطير إسرائيل “The Founding Myths of Israel، بين فيه أن الصهيونية تأسست على المفهوم العرقي الثقافي للأمة وفق الأيديولوجيات القومية التي اجتاحت أوروبا الوسطى (بما يقربها من النزعة النازية)، فتصورت المجموعة السياسية على شكل منظومة حية بروح واحدة، على عكس تصور الأمة في المنظومة الليبرالية الحديثة من حيث هي رابطة تعاقدية قانونية حرة .
وهكذا نتج عن هذا التصور القومي العرقي رؤية إقصائية عنصرية استهدفت المواطنين العرب في الدولة الإسرائيلية وسكان المناطق الفلسطينية المحتلة، بما يشكل بالنسبة لسترنهل أكبر خطر مستقبلي يواجه الدولة الصهيونية ذاتها.
مثل بورغ، ينتقد سترنهل بشدة الفكرة الصهيونية، ويدعو إلى تجاوزها في الساحة اليهودية.
وبالفعل نلاحظ اليوم توترًا واسعًا في إسرائيل وفي الأوساط اليهودية الغربية حول تركة المشروع الصهيوني وأثره على مستقبل الشعوب اليهودية. نشير هنا إلى كتابات اليهودي الأمريكي “بيتر بنرت” الذي كتب دراستين أساسيتين تتعلق أولهما بموضوع المساواة داخل الدولة اليهودية وهي بعنوان: ” Yavne: A Jewish Case for Equality in Israel-Palestine”، أما الثانية فيوضح فيها أنه لم يعد يؤمن بالدولة اليهودية، وهي بعنوان : “I No Longer Believe in a Jewish State”.
بالنسبة لبنرت، أصبح من الضروري اليوم بالنسبة لليهود “التقدميين” التخلي كليًّا عن مشروع “الدولة اليهودية” بتبني مطالب المساواة الكاملة في الحقوق ما بين سكان فلسطين الكبرى من اليهود والعرب، بما يعني عمليًّا تفكيك الدولة القومية اليهودية ونبذ الأيديولوجيا الصهيونية. ويرى بنرت أن مشروع هرتزل لم يكن يهدف إلى بناء الدولة اليهودية بل توفير “وطن” لليهود يلجأون إليه من ويلات المحرقة، والحال أن الدولة راهنًا غدت هي الخطر الكبير الذي يهدد الوجود اليهودي، ومن ثم ضرورة العودة إلى المفهوم الروحي الثقافي للهوية اليهودية بدلًا من الإطار السياسي الحالي.
إن هذه الأزمة الفكرية السياسية تترجم في الوقت نفسه انهيار المرتكزات المؤسسية للمشروع الصهيوني التي هي: نظام الكيبوتزات (القرى الجماعية التشاركية)، والنقابات العمالية (الهستدروت) والحزب العمالي الذي أسس الدولة وحكمها عقودًا طويلة قبل انهياره في المعترك الانتخابي في السنوات الأخيرة.
لقد كانت هذه المؤسسات هي دعامة الكيان السياسي، لكنها أصبحت هشة وضعيفة في مواجهة ظواهر خطيرة، من قبيل عسكرة الدولة وتحكم المليشيات الدينية والجماعات الأرثوذكسية الراديكالية والتيارات العنصرية العنيفة، بما يترتب عليه أن فشل المشروع الصهيوني هو في آن واحد فكري ومجتمعي.
وخلاصة الأمر، أن الأيديولوجيا الصهيونية التقليدية باعتبارها أثرًا من آثار النزعات القومية الأوروبية في العصور الاستعمارية السابقة لم تعد قادرة اليوم على توفير أفق مستقبلي للشعوب اليهودية، بما يفسر تأرجح الصراع الدائر اليوم في إسرائيل وفي الأوساط اليهودية بين الصهيونيات الدينية وتيار ما بعد الصهيونية الذي وقفنا عند بعض أمثلته وتعبيراته.