فوضى منطقة الساحل الإفريقيّ د. رفيف رضا صيداوي*

"النيجر والمنطقة كلّها تغرق في الفوضى". كان هذا عنوان الملفّ الذي خصَّصته دوريّة "كورييه أنترناسيونال" الفرنسيّة لمنطقة إفريقيا في عددها رقم 1710 الصادر في 10 - 16 آب/ أغسطس 2023. وقد ارتأينا ترجمة المقالة الأولى من هذا الملفّ العائدة لـ "سنا غي" Sana Guy، والمنشورة على موقع Lefaso.net في أغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو، في 30 تمّوز/ يوليو 2023؛ بحيث قدَّمت "كورييه أنترناسيونال" المقالة بالقول: "إنّه مع الانقلاب الذي وقَعَ في النيجر، لم يقتصر الحَدَث على بلدٍ انتقل بسرعة إلى الفوضى المؤسّسيّة فحسب، بل إنّ منطقة الساحل (بوركينا فاسو، تشاد، مالي، موريتانيا، النيجر، والسنغال) كلّها هي التي تغرق أكثر في عدم اليقين الأمنيّ". في ما يلي ترجمة المقالة.

في النيجر، نصَّبَ قائدُ الحرس الرئاسي عبد الرّحمن تشياني نفسَه رئيساً للدولة في الثامن والعشرين من تمّوز/ يوليو الماضي، لكن من دون أن يكون رئيس الدولة قد استقالَ بعد. محمّد بازوم ليس جاهزاً بعد لتوقيع كتاب استقالته على غرار الرؤساء المُنتخَبين الذين أطاح بهم العسكريّون من قَبل: إبراهيم بوبكر كيتا (الذي اشتُهر بـ IBK) [رئيسٌ ماليٌّ أُطيح به في تمّوز/ يوليو 2020]، ألفا كوندي [رئيسٌ غينيٌّ أُطيح به في أيلول/ سبتمبر 2021]، روش مارك كريستيان كابوري [رئيس بوركينا فاسو المخلوع في كانون الثاني/ يناير 2022].

يأتي انقلابُ النيجر ليُظهِرَ للعالَم حالةَ الخراب التي تعيشها بلدانُ الساحل وأفريقيا الغربيّة بأكملها، وعدم القدرة على مواجَهة مشكلة مُكافحة انعدام الأمن ومُعالجتها.

هل مِن أسبابٍ خفيَّة لهذا الانقلاب؟ ولماذا هذا الانقلاب ضدّ محمّد بازوم الذي أراد قسمٌ من الجيش الإطاحة به قبل تنصيبه رئيساً؟ ولماذا يقوم الذين دافعوا عنه وناصروه يومها بسحبِ السلطة منه الآن؟

هل إنّ الرئيس بازوم، بصراحته، ولَّدَ إحباطاتٍ في أعلى سلّم الهرم العسكريّ النيجريّ؟ ماذا يُمكن للـ "سيدياو" [مجموعة اقتصاديّة لدول غرب أفريقيا، تضمّ 15 دولة عضوة]، التي أرادت بناء قوّة لمُحاربة الانقلابات، أن تفعلَ، في حين أن أحد الفرسان الشجعان لهذه الحرب فَقَدَ حتّى سلطته؟ أَوَلَا يَجدر بالمنظّمة الدوليّة أن تتصرّف بحِكمة، وبعيداً من أيّ دوغمائيّة، في سياقٍ تقع فيه منطقة الساحل فريسةَ الصراعات على السلطة بين القوى العظمى؟

المجموعات المسلَّحة كذلك، كان لها ضحيّة رئاسيّة جانبيّة أيضاً. بعد إبراهيم بوبكر كيتا في مالي العام 2020، وبعد روش مارك كريستيان كابوري في العام 2022 في بوركينا فاسو، سقطَ آخر الأنظمة الديمقراطيّة في بلدان منطقة ليبتاكو - غورما الثلاثة [منطقة تاريخيّة في إفريقيا الغربيّة تضمّ النيجر وبوركينا فاسو ومالي] في النيجر، وذلك يوم 26 تمّوز/ يوليو 2023، من ضمن حلقة في مسلسل شبيهة بتلك التي قامت مع سقوط آخر رئيس مُنتخَب في بوركينا فاسو [روش مارك كريستيان كابوري]، حيث بدت السلطة معلَّقة في مكانٍ ما بين الاثنَيْن مدّة ثمانٍ وأربعين ساعة، متردِّدةً أو حائرةً بين القديم والجديد، وذلك قبل أن تقع بالكامل في أحضان الرجل القويّ الجديد، الذي سخَّرَ كما يبدو، وليس من دون صعوبة، كلَّ الجيش لمشروعه.

بوتيرةٍ بطيئة. محمّد بازوم مُحتجَزٌ من قِبَلِ حَرَسِه الشخصي في القصر الرئاسي. وكما هو حال البلدان التي تغرق كلّ يوم في حركةٍ بوتيرةٍ بطيئة، تحدث حاليّاً انقلاباتُ دول الساحل أيضاً بحركةٍ بطيئة، مع تقلّباتٍ في المزاج وتمرُّدات الجنود.

والسلطة الهرميّة التي يتشاور أعضاؤها تتردّد في الاختيار بين احترام الشرعيّة أو التمرُّد والعصيان، لينتهي الأمر باستهلاك الانقلاب الذي يصعب ترسيخه. شروطُ تأسيس قوّة انقلابيّة تحمل في طيّاتها بذورَ تعارضاتٍ وانقساماتٍ مستقبليّة.

الانقلابُ الحاليّ في النيجر ليس انقلابَ ضبّاط نُقباءٍ شباب أو لفتنانت كولونيل، بل نحن على مستوى القيادة العليا للجيش. إنّهم جنرالات يستأثرون بالسلطة، كما كنّا نشهد في السبعينيّات في مختلف البلدان الإفريقيّة. وتكمن المشكلة عندما "يكون التراجُع المستمرّ للوضع الأمني" مُستحضَراً من قِبَلِ هؤلاء الرجال الاستراتيجيّين والمنفِّذين لهذا الصراع إلى جانب الرئيس بازوم [الرجلان النيجيريّان القويّان الجديدان: الجنرال عبد الرّحمن تشياني والجنرال ساليفو مودي، احتلّ أوّلهما منصب الحرس الرئاسي في النيجر، والثاني منصب رئيس القوى المسلّحة النيجريّة من العام 2020 إلى نيسان/ إبريل 2023].

من المؤكّد أنّ النيجر تشهد انعداماً في الأمن، لكنّها، بالتأكيد، لن تكون البلد الأخير الذي سيشهد ذلك. تكفي مُراجَعة الإحصائيّات عن عددِ الأحداث الإرهابيّة وعددِ الأشخاص الذين قَضوا موتاً في النيجر التي تنشرها مؤسّساتُ الدراسات والبحوث حول المجموعات الإرهابيّة لكي نُدرِكَ أنّ هذه الحجّة أو الذريعة لا تصمد.

من المُحزن أن يكون الجنرالات قادرين على التلويح بالخطر الأمنيّ لكي يستولوا على السلطة؛ وذلك مع العِلم أنّهم يعرفون جيّداً أنّ الإرهابَ لا يُمكن التغلُّب عليه خلال ثلاثة أو ثمانية أشهر، وأنّ الحجّة نفسها ستكون مُعارِضة لهم من قِبَلِ انقلابيّين آخرين. هذا الافتقار إلى منظورٍ تحليليّ للوضع الأمني يُهدِّد بدفعهم إلى عدم الاعتراف بالمُمارسات الجيّدة للنظام القديم.

الانطباعات الأولى تقودُ إلى التفكير بأنّ هذا الانقلاب، شأنه شأن كلّ المكائد، لا يرتكز على مشروعٍ ناضج للنضال ضدّ انعدام الأمن وفي سبيل تنمية البلد. وهذا ما يقودنا إلى التفكُّر بوجود، على صعيد البُعد الشخصيّ، شعورٍ أو نزعةٍ مسيانيّة (messianique) متأخّر قليلاً لدى الجنرالات. والأرجح هو بالتأكيد الإحباط الناشئ عن صراحة الرئيس محمّد بازوم في ما يخصّ ضعف القوّات المسلّحة الساحليّة في مُواجهة المجموعات الإرهابيّة. في صراعه ضدّ المجالس العسكريّة الموجودة في السلطة في إفريقيا الغربيّة، قد يكون محمّد بازوم قد جَرَحَ كبرياء بعض مواطنيه.

الغربيّون أيضاً يسيرون على حبلٍ مشدود وبحذرٍ بالغ، شأنهم شأن الولايات المتّحدة الأميركيّة، الذين باتوا حاضرين في النيجر غداة اعتداءات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. النيجر، المُجاور لليبيا، أصبح منذ ذلك الحين مكاناً جيوسياسيّاً بالنّظر إلى ثرواته المعدنيّة، اليورانيوم والنفط من بين ثرواتٍ أخرى، وبالنّظر إلى عبور المُهاجرين إلى أوروبا عن طريق بلد معمّر القذّافي.

القوّات المسلَّحة النيجريّة بَدَتْ أكثر جاذبيّة وأكثر قتاليّة بالنسبة إلى الأميركيّين الذين ثبّتوا قاعدتَيْن جويّتَيْن للدرونز في نيامي وأغاديز اللّتَيْن كانتا توفّران المعلومات لـ "قوّات بارخان" الفرنسيّة، لكن ليس لدول الساحل نفسها. وهنا أيضاً تكمن إحدى مُفارقات الحرب ضدّ الإرهاب، حيث الحلفاء الأجانب لا يثقون بنظرائهم المحلّيّين.

الاستثمار الأمنيّ الأميركيّ بالغ الأهميّة في النيجر. ويُقَدَّر عدد الجنود الأميركيّين بحسب المصادر بين 850 و1000 رجل. في حين أنّ الناجين من "قوّات بارخان" [الذين انسحبوا من مالي ومن بوركينا فاسو] يبلغ عددهم 1500، فضلاً عن مئات المُقاتلين الألمان.

الانتهازيّون. نيامي هي المعقل الغربيّ الرئيس والأخير في منطقة الساحل، فهل سيَضع هذا الانقلابُ كلَّ شيء مَوضعَ تساؤلٍ؟ لا يُمكن لبلدِ العمّ سام أن يَنظر بأعصابٍ باردة إلى هذا البلد وهو يرتمي بين ذراعَيْ الدبّ الروسي، كما يَحلو للمُتظاهرين الذين يلوّحون بالأعلام الروسيّة أن يفكّروا. حتّى ولو أنّ الأولويّة تعود إلى أوكرانيا، فإنّه لا يُمكن تصوُّر أن يُشاهِد الأميركيّون كلَّ أحجارهم المأخوذة على رقعة الشطرنج الإفريقيّة، من دون إلحاق الهزيمة بقيصر روسيا.

أيّاً كانت النهاية التي نتعامل بها مع هذا الانقلاب في النيجر، فإنّ المُستفيدين الحقيقيّين هُم المجموعات الإرهابيّة المُسلَّحة، التي تبتهج لرؤية بلدٍ جديد يقع في اللّااستقرار. إنّه انهيارٌ في سلسلة القيادة، وقد يكون أيضاً في استراتيجيّة الصراع. المجموعات الإرهابيّة لا تُقاتِل من أجل الديمقراطيّة، وهي سعيدة برؤية السلطات المُنتَخبة تسقط الواحدة تلو الأخرى في الساحل. إنّه انتصارٌ أيديولوجي لهؤلاء الرجال الذين ليسوا أنصارَ نظامِ الرجل الواحد، أو الصوت الواحد، أو سلطة الشعب.

الانتهازيّون من كلّ صوب، الذين يهلّلون للانقلابات، واعدين أنفسهم بالحصول على مكانٍ لهم في النظام الجديد، يُغرِقون بلداننا في الوضع الكارثيّ الذي يوجدون فيه أصلاً.

*مؤسّسة الفكر العربيّد. رفيف رضا صيداوي*