"نكأ الجراح و كتابة فصول جديدة من التاريخ بمداد النوايا المتباينة"
إذا كان الحوار هو أرقى سمات التحضر الإنساني و أبرز علامات المدنية، فإنه كذلك منة عظمى على السياسة حيث تتنافس في خضمها و تتزاحم على اختلاف مشاربها و مناهجها و خطاباتها و فلسفاتها و رؤاها و إن توحدت في مجمل النهايات و منتهى الغايات إلى إعلان هدف بناء البلدان و إنصاف المواطنين
و رفع تحديات القيام و البناء و استمرار مسيرة الكيان.
من هنا فإنه لم يكن مفاجئا بمنطق الأشياء و واقع البلد السياسي في كل تناقضاته أن تطرق عند أول وهلة و في الافتتاح الرسمي قضايا لا تخطر للكثيرين على بال و بجرأة وحدة مثيرتين كالهجوم الاستباقي على اللغة العربية تمهيدا لخلق ملف جديد في صيرورة قضايا ذات صلة بصراع الهوية الذي لم يحسم يوما بما كانت تمليه أبجديات التأسيس المنقى من كل الشوائب و مسوغات المنطلق الصحيح على قاعدة صلبة.
و في حين يعتقد الكثيرون أن أمر الخلافات و الصراعات السياسية بأيدي أحزاب الساحة الكبرى ـ أسستها و تقودها بدون شريك في الرأي و لا ند في الطرح قيادات لأغلبها علاقة باعتبارات الماضي و السلطة من زاويتي الانتماءات في التركيبة المجتمعية و الحضور في وضع فكر و فلسفة و عقيدة و توجه دولة النشأة و اعتلوا مناصب سامية و سيروا وزارات و مؤسسات مالية كبيرة أثناء أغلب تلك العهود التي توالت و مازالت تشهد استمرارا ولو مقنعا و متقمصا بعض أوجه و سمات العصر و مفاهيمه الجديدة، فإن تلك المغالطة و الخداع لم يعودا ينطليان على الوعي الجديد و المد المطلبي الحقوقي المتصاعد و إن ما يزالا يسجلان في الوقع المرتبك استمرارا مكشوفا.
وفي الواقع فإن الشأن السياسي الذي بوسعه تغيير ملامح الدولة إيجابيا أم سلبيا أصبح بأيدي أحزاب من طراز جديد و إن بقيت الأنظار تتجاوز خطاباتها و فلسفاتها الحركية في اللب و تحمل هموما شرائحية و قضايا حقوقية و أبعادا ثورية انقلابية على قوالب الماضي و رفض بقائها من دون محاسبة بما اقترفت و ما زالت تفعل من تعدي سافر على الدولة الحديثة التي تستند على قوة القانون و انصاف الديمقراطية في رباعية القيام و القيادة و التسيير و توزيع العدالة تحت سقف الحكامة الرشيدة.
و لن يكون هذا الحوار الذي انطلق حوارا ضيقا مهما استخدمت لذلك من وسائل و لو إرتكس بعض حملة رسائل قوية و هموم متمردة لصالح تفاهمات قد تتمخض عنها بعض التقاربات إلى مساعي غرضية يكون لنكئ جراح و استحداث أخرى جائشة، و محاكمة التاريخ، و كتابة فصول جديدة يغيب فيها أو يضعف المد التحريضي عند بلورة نص البيان الختامي وضمن عريضة التوصيات النهائية.
و فيما يستاء الكثيرون من حدة طرح بعض الأطراف المشاركة على مائدة التناول و النقاش و إحكام القفل على أبواب الفرار منها قضايا و ملفات شائكة محل خلافات جوهرية عميقة، فإن الكثيرين يعدون ذلك من حسنات الحوار حيث تحظر "المحظورات" و تصفد إرادة حمايتها و يُحَصل على المائدة ما في الصدور من غضب و أحقاد و ضغائن أو نوايا بتحقيق أهداف و طموحات أو إرادة تغيير أمور و تحويل توجهات و إصلاح اعوجاجات و رأب شروخ و تصدعات.
و إن لموريتانيا ملفات ساخنة و قضايا عميقة لا يزال التعامل معها خجولا في دائرة من التغافل عنها يزيها حدة و عمقا. و إنه في الوقت الذي ترفض فيه جهات سياسية و حركية و فئات اجتماعية و حقوقية الاعتراف بوجودها و ترفض أخرى تناولها و ثالثة تحاول تناسيها، فإن الأمر يختلف عند جهات و فئات أخرى تريد لها أن تكون موضع مكاشفة و مصارحة و موضع شجاعة على التناول للبحث عن الحلول و بناء منطلقات جديدة لثقة مشتركة.
صحيح أن الأرضية زلقة و أن تجربة التعاطي مع الحوار حول القضايا العميقة ناقصة فيما أسباب الخلافات قائمة لم تغيرها إرادة في حاضر و لم تُعط يوما اهتماما مستحقا في خضم الممارسة السياسية داخل الأطر الحزبية التي تجاوز عمر أولها سن الدولة المستقلة حيث نشأت بعقد من السنين يزيد سبق إعلان الاستقلال، و لم تنضج كفاية مع ظهور الحركات المحظورة التي رأت النور منتصف الستينيات و تأثرت بالحراك الأيديولوجي في الغرب و آسيا و أمريكا اللاتينية لكنها لم توفق في إحقاق نضال ثوري يمهد لميلاد دولة القانون و العدل بفعل تأثير الفكر القومي العربي و الزنجي و ضعف نضال هذه الحركات أيضا من أجل انعتاق الشرائح الدونية في التركيبة المجتمعية القائمة من ربقة المهانة و القهر و الذل.
و في مجارات أحزاب و حركات الماضي تكمن كل نقطة ضعف أحزاب اليوم المتحاورة في بادرة ديمقراطية حول قضايا و ملفات يفرضها عليها واقع الحال و منطق الأشياء الجديد فلا تحمل لها بتركيبتها و ضعف حضورها في خطاباتها أي حلول و لا تصورات و مقترحات تسوية. و أما الأحزاب التي غابت عن الحوار فلا تقل عجزا عن تقديم ما هو أفضل حتى لو شاركت لأن الأهداف واحدة في اللب تتعلق بالسعي للحكم و الخاء و إقصاء الآخر إلى ساحة معارضة لا تحمل مشروع دولة لانشغالها بالبحث عن الحكم غاية و نهاية.