دَأَبَ الفكرُ القوميّ العربيّ منذ بداياته في منتصف القرن التّاسع عشر على اعتبار القوميّة العربيّة والوحدة العربيّة من الحقائق التي لا يرقى إليها الشكّ والارتياب، بناءً على تصوّراتٍ إيديولوجيّة وأسانيد تاريخيّة ثابتة، كالجنس واللّغة والتراث والوجدان أو الدّين والتاريخ والثقافة. في هذا السياق نادى النهضويّون العرب بالعصبيّة الوطنيّة والقوميّة والشرقيّة، وعادوا إلى التراث العربيّ الاسلاميّ وإلى اللّغة العربيّة، بوصفها حاملةَ هذا التراث، فكَتبوا الروايات ونَظَموا القصائد التي تستعيد أمجادَ العرب وماضيهم التليد.
ألَّف بطرس البستاني مُعجمَيْ "محيط المحيط" و"قطر المحيط" انطلاقاً من أنّ اللّغة العربيّة هي التي تجمع العرب وتوحّدهم، ورأى إبراهيم اليازجي أنّ اللّغة العربيّة هي علّة الضمّ الحقيقيّة في الأُمّة، وأَشاد فرنسيس المرّاش بالجنس العربيّ وذكاء العرب وكرمهم وثباتهم وريادتهم الحضاريّة.
كانت هذه توجّهات الرعيل الأوّل من النهضويّين العرب، إذ تبنّوا فكرة القوميّة العربيّة، وإنْ عبر تيّاراتٍ مُختلفة، عروبيّة أو علمانيّة أو اشتراكيّة. وفي الاتّجاه نفسه، سارَ الرعيل اللّاحق من العروبيّين، فرأى ساطع الحصري أنّ اللّغة هي "روح الأُمّة"، وأنّ الوحدة العربيّة هي من "التيّارات الطبيعيّة التي تنبع من أغوار الطبيعة الاجتماعيّة"؛ وقال رئيف خوري إنّ القوميّة العربيّة لها جذور في التاريخ العربي البعيد والقريب، وإنّ ثمّة شعوراً قوميّاً ميَّز العربي الذي يشعر أنّه "وارثُ شعبٍ باسلٍ ذكيٍّ أبيٍّ يعتزّ بالانتساب إليه".
واعتبَر ميشال عفلق أيضاً أنّ الأُمّة العربيّة هي "وحدة روحيّة ثقافيّة وجميع الفوارق بين أبنائها تزول بيقظة الوجدان العربي"، وأنّ القوميّة العربيّة ليست نظريّة، بل هي "حبٌّ قَبل كلّ شيء، هي العاطفةُ نفسها التي تربط الفرد بأمّه.. والذي يحبّ لا يُسأل عن أسباب حبّه. الحبّ أوّلاً، ثمّ يأتي التعريف من بعده"؛ وعلى هذا الأساس الوجداني الرومانسي رَهَنَ ميشال عفلق الوحدةَ العربيّة بانقلابٍ روحيّ في المجتمع العربي، يرتفع العرب معه إلى مستوىً روحيّ يصهر نفوسهم من جديد.
من هذا المنظور بالذّات، ذَهَبَ قسطنطين زريق إلى أنّ القوميّة العربيّة حركةٌ روحيّة بل إنّها رسالةٌ تؤدّيها للثقافة الإنسانيّة والتمدُّن العامّ. وفيما رهنَ إلياس مرقص وياسين الحافظ التقدُّمَ والحريّة وتجاوُزَ الفوات الحضاريّ بالوحدةِ العربيّة، أَرجع الشيوعيّون العرب القوميّة والوحدة إلى عوامل اقتصاديّة بحتة.
بعد كلّ ذلك الجَدَل الإيديولوجي وأطروحاته المُتناقِضة والرومانسيّة التي لا اتّفاق في ما بينها على تحديد معنى الأُمّة وعوامل نشوئها، وعلى شكل وحدتها، وكيفيّة بلوغ هذه الوحدة، وحول ما إذا كان ذلك كلّه يتمّ بالديكتاتوريّة والعنف أو من خلال "إقليم قاعدة" أو على أساس "كتلة تاريخيّة" ذات رسالة توحيديّة، بعد ذلك الجدل كلّه تبدو الأقطارُ والمُجتمعاتُ العربيّة وكأنّها عصيّةٌ على التوحيد والائتلاف القومي أو الوطني، وتبدو مهدَّدةً بالنّزاعات والحروب الأهليّة والانقسامات القبليّة والطائفيّة. وما انزلاق الصراع إلى مستوياتٍ ما قبل وطنيّة في غير قطر عربي، سوى دلالة على جديّة المخاوف، لا على الوحدة القوميّة العربيّة فحسب، بل على الوحدة الوطنيّة داخل كلّ قطرٍ عربي. الأمر الذي جَعَلَ اليقينيّة القوميّة الرومانسيّة، التي شكَّلت إحدى أهمّ ميزات الفكر القومي، تتراجَع وتَنحسر منذ ثمانينيّات القرن الماضي، بحيث خليَت الساحة أمام العقلانيّة النقديّة التي ذهبت في مساءلتها للإيديولوجيّة القوميّة إلى حدّ التشكيك والارتياب وطرْح كلّ المبادئ والمقولات القوميّة، التي اعتُبرت من المسلّمات، على بساط المُراجَعة النقديّة.
في تحوّلات الجابري
في سياق هذه المُراجعة تساءَل محمّد عابد الجابري في "المشروع النهضوي العربي" 1996: "ما الذي يجمع الدول العربيّة ويجعل التفكير في مستقبلٍ واحد لها أمراً مشروعاً ومُمكناً؟ ما الذي يُبرِّر اليوم استعمالَ اسم العرب ليُزاحِمَ أسماءً أخرى مثل المصريّين والسوريّين والمَغاربة؟". وقال قسطنطين زريق قبيل رحيله في آخر كُتبه: "عليّ أن أعترف أنّني كنتُ أتكلّم وأَكتب في الماضي عن "الأُمّة العربيّة"، فإذا أنا أتجنّب هذه التسمية لبُعدها عن الواقع المعيش... بل إنّني غدوت أشكّ في صحّة التكلُّم على المُجتمعات العربيّة القطريّة أو عن "المجتمع العربي العامّ"، نظراً إلى قصور أهل كلٍّ منها، وأهلها جميعاً، عن تكوين ما يصحّ أن يُدعى "مجتمعاً" أو "شعباً".
هذا التراجُع في الفكر القومي يعود في رأينا إلى الالتباس الذي طاولَ منظوراته ومقولاته التي كانت دائماً عرضةً للاهتزاز والتناقُض والمُراجَعة. ليس أدلّ على ذلك من الإشكال المفهومي الذي اعتور الفكر القومي عند الجابري. فبعدما كان قد جَعَلَ اللّغة في "الخطاب العربي المُعاصر" 1982 العنصرَ الرئيس، ولربّما الوحيد الذي يجمع بين الشعوب العربيّة التي تزخر بالأقليّات ولا تتمتّع أقطارها بوحدةٍ طبيعيّة كافية، عادَ واعتبرَ في "المسألة الثقافيّة" 1994 أنّ الثقافةَ العربيّة هي الجامع القومي المؤكَّد، وأنّ الدّين مقوِّمٌ أساسيّ من مقوّمات الوحدة والثقافة العربيّتَيْن. ولم يلبث أن تراجَع عن رأيه هذا في "مسألة الهويّة" 1995، حيث رأى أنّ سكّان المنطقة، من المحيط إلى الخليج، هُم عرب لا بالفصاحة ولا بالنَّسب ولا بالدّين، بل باللّغة والثقافة والتاريخ. ومع أنّ الجابري تكلَّم في "المسألة الثقافيّة" عن انشطارٍ في الثقافة العربيّة يكتسي في الظرف الرّاهن صورةَ صراعٍ خطير يُكرِّس التشرذُم والحرب الأهليّة، يقفز إلى اعتبار "الوحدة العربيّة على المستوى الثقافي قائمة بصورة طبيعيّة"، وأنّ ما يعوّقها هو غياب الإرادة السياسيّة. وبينما رأى في "إشكاليّات في الفكر العربي المعاصر" 1989 أنّ "تحقيق الوحدة يمرّ عبر نفي الدولة القطريّة العربيّة"، عادَ ليؤكِّد في كتابه "وجهة نظر" 1992 أنّ الدولة القطريّة لم يَعُد من المُمكن القفز عليها حتّى على صعيد الحُلم، وأنّ كلّ تفكير في الوحدة العربيّة لا ينطلق من واقع الدولة القطريّة الرّاهنة هو تفكير ينتمي إلى مرحلة مضت وانتهت.
هذا الإشكال المفهومي مردّه في الحقيقة إلى تصوّرٍ واهِمٍ بانت لا مشروعيّته التاريخيّة والإيديولوجيّة. فلم يكُن واقعيّاً ولا مُبرَّراً اعتبار العالَم العربي واحداً موحَّداً، وأنّ التجْزِئة الرّاهنة ما هي إلّا عارضٌ تاريخيٌّ بغيض فَرَضَهُ الاستعمارُ وسايكس بيكو "السيّئ الذكر". فالواقع أنّ العالَم العربي تنازعته على الدوام عوامل جغرافيّة باعدت بين مناطقه وأصقاعه، وأخرى سوسيولوجيّة تكمن في تعدّديّةِ كياناته القَبليّة والعشائريّة والإثنيّة والطائفيّة التي لا تزال إلى الآن عائقاً أساسيّاً أمام دعوات التوحيد العربيّة. ولعلّ هذا ما تنبَّه إليه محمّد جابر الأنصاري الذي رأى في نهاية القرن الماضي أنّه حانَ الوقت لوقوف العربي على السطح الطبيعي والعملي والواقعي لوجوده في هذا العالم، وهو سطح الدولة الوطنيّة التي هي أوّل تجربة للعرب في الوحدة، والتي من دونها ومن دون وحدتها الداخليّة ستبقى الوحدة القوميّة العربيّة حُلماً بعيد المنال.
بالمعنى ذاته يقول غسّان سلامة في "نقد الفكرة العربيّة من مَوقع التمسُّك بها" (مجلّة المستقبل العربي، العدد 275، كانون الثاني/ يناير 2002): "منطق القطريّة له في الواقع الملموس أساسات لا يُمكن نفيها والتعامي عنها. بل إنّ القبول بها والتعايُش معها هو السبيل الوحيد لإعطاء الفكرة العربيّة أيّ بُعدٍ علمي وعملي... الأمّة العربيّة أمر غير موجود إلّا في الذهن والمخيّلة، إنّها مجرّد مشروع يجب بناؤه، لأنّه غير موجود في ذاته ولذاته. ولهذا لا حَظَّ للفكرة العربيّة بالنجاح إلّا بفعل وإرادة ذاتيّة واعية".
لاقَت هذه الأطروحات جَدلاً واسعاً حين نادى بها المفكّر الراحل كمال يوسف الحاج في الستّينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، ولكنّها بدأت تُصبح الآن من بداهات الفكر القومي ومسلّماته في إدانةٍ لأطروحات الإيديولوجيا القوميّة في مرحلة الصعود والثورة. وفي هذا يقول عبد الكريم غلّاب في "أزمة المفاهيم وانحراف التفكير" 1998: "لا أبالغ حينما أزعم أنّ كلّ هذه الهزائم التي منيت بها القوميّة العربيّة جاءت من اهتزاز المفهوم في الفكر العربي وفي السياسة العربيّة... وقد أصبحنا الآن مضطرّين لأن نُواجه مشاكلنا بفكرٍ جديد ومنظورٍ جديد". وما نراه وندعو إليه في هذه المقالة، ليس نقض أفكار "القوميّة العربيّة والوحدة العربيّة"، بل على العكس، تحرير هذه الأفكار من أوهام الأدْلَجة وأضاليلها؛ ما سيقود العرب حتماً إلى البحث عن صيغةٍ واقعيّة أكثر رسوخاً، صيغة لا تنطلق من أيّة مسلّمة أو تصوُّر من التصوُّرات والمسلّمات المعهودة لعجْزِها عن تأسيس دولة الوحدة. لقد كَتبت الأيديولوجيّات تاريخاً للعرب ملطَّخاً بالصراع والعنف والدمّ، ولم يبقَ أمامهم إلّا أن يكتبوا تاريخاً قوامه العقل والمنطق ويفكّروا في ما يَجمع العرب حقيقة. وهذه ليست حقيقة جغرافيّة ولا تاريخيّة ولا دينيّة. إنّها فوق ذلك كلّه مسألة وعي وإرادة ورؤية للمستقبل.
*كاتب من لبنان