التغيير العربيّ ومَطامحه في ظلّ النكبات د. أحمد حلواني *

أعادني كتاب "ستيفان تسفايج" بترجمةِ عارف حذيفة في تصويره المُنصِف لعصره من ضمن الحياديّة والصدقيّة، والذي عاش فيه مشقّات الثورة وتجارب العصيان والحرب والمجاعة والإفلاس الوطنيّ (وفق قوله) في عالَم الأمس، إلى ذكرياتٍ مُرْة عاشها جيلي مُستذكراً ما عشناه من نكباتٍ متتالية، كان الفرح فيها شبيهاً بالبرق ولمعانه السماويّ لبرهة لا تتجاوز الثواني!

والحديث في عالَم الأمس ونكباته، قد يكون مؤلِماً ومزعجاً، لكنّه ضروريّ لعلّه يفتح المجال إلى طريق التغيير والخلاص.

‏ لقد شكّلت نكبة فلسطين في العام 1948 وهزيمة الجيوش العربيّة أمام الجيش الصهيوني تتويجاً لمرحلة الضعف الذي تعيشه الدّول العربيّة التي نالت استقلالها قبل مدّة قصيرة بعد كفاحٍ طويل وشاقّ من أجل التحرّر والاستقلال. وأظهر هذا الضعف أهميّة التخلُّص من التخلُّف والانقسام واللّاديمقراطيّة في الحُكم، الأمر الذي جَعَلَ النُّخب والأجيال الجديدة تحاول استعادة زمام الأمور باستعادة فلسطين والعمل على تغيير الواقع المأزوم والانتقال إلى مرحلةٍ جديدة لكسْبِ الحرب عبر حشدٍ شعبيٍّ واع، واستخدام طُرق سلميّة عبر أحزابٍ وجمعيّات وتنظيمات متآلفة، مع ثورات وانقلابات عسكريّة في أحيان كثيرة. وقد تبايَنت إيديولوجيّة هذه الجهات بين الارتكاز على السلف الإسلامي أو الثورة على مكوّنات قيَم المجتمع كلّه، وتبنّي الفكر الماركسي أو اللّيبرالي الغربي أو القبول بحُكم عسكريّ، إضافة إلى أشكالٍ أخرى متعدّدة متضمّنة طرقاً وأساليب خاصّة بالمُجتمعات المحليّة وعاداتها المعروفة.

‏وقد شكّل كلّه حالةً من القلق وعدم الاستقرار ترافَقَ مع تحفّظاتٍ وتخبّطاتٍ وهزائم جديدة استمرّت طيلة العقود الماضية، ولم تزل في غالبيّتها كذلك من دون الوصول إلى نتائج إيجابيّة.

‏ لكنّ إرادة التغيير وتنوّعات مكوّناتها لدى الأجيال العربيّة بقيت حيّة للوصول إلى حالة انتصار إرادة الذّات العربيّة على الهزيمة وتحقيق النصر، وبناء حضارة عربيّة جديدة.

وفي هذا المجال أَخذ موضوع التغيير السياسيّ يحتلّ مساحةً كبيرة من الدراسات ‏والأبحاث في إطار التغيير والتنمية السياسيّة ‏وأفرز اهتماماً بصوْغِ نظريّاتٍ عامّة، بحيث أَصبح تحليل التغيير السياسيّ يمثّل حقلَ اهتمامات ومناقشات وتحليلات أساتذة العلوم السياسيّة، بغضّ النَّظر عمّا يربطه بالأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة أو حتّى بتوجّهاتٍ منطقيّة (غائيّة) أخرى. وبهذا، فقد انتقلت الدراسات السياسيّة من التركيز على النظام السياسي إلى التحليل المُقارَن للنظم السياسيّة الحديثة والتقليديّة واهتمام أكبر بالعمليّة التاريخيّة المتميّزة التحديث، وإلى صياغة جديدة للمفاهيم المرتبطة بالتنمية السياسيّة، وصولاً إلى نظريّات التغيير السياسيّ بشكله المجرّد والنظري.

الأمر الذي أسَّس لعلمَيْ التحوّل والترسيخ، ما جَعَلَ التغييرَ السياسي والعمليّة الانتقاليّة قابلة للملاحظة العلميّة وتصنيفها وفق معايير واستراتيجيّات واضحة علميّة. وقد توزّعت الدراسات بين:

١ـ الإطار المفاهيمي والتحليلي للتغيير السياسيّ

٢ـ تجارب التغيير السياسيّ ونتائجه الخصوصيّة والافتراضات المتعلّقة بالمجالات السياسيّة لكلّ منطقة.

ونستطيع أن نحدّد هذه الأهداف بالنسبة إلى منطقتنا العربيّة بما يلي:

أوّلاً، استبصار نتائج التأمُّل في تجارب التغيير السياسيّ الجارية على مستوى مُواجَهة الديمقراطيّة القائمة.

ثانياً، تطوير افتراضات خاصّة في المجال السياسي العربي والإفريقي والإسلامي والقطري.

ثالثا، ‏المشاركة بين مشروع الانتصار و"فلسطين في القلب" والتطوّر الحضاريّ العربيّ.

رابعاً، فتْح النقاش العالميّ حول ثنائيّة الدّين والسياسة والاقتصاد والمُجتمع والسياسة.

خامساً، تقديم تجارب التغيير السياسيّ في المنطقة العربيّة وإمكانيّة تصنيفها من ضمن أو خارج أدبيّات السياسة المقارنة.

‏وإذا كانت المحاولات العربيّة للتغيير قد وقعت، كما ذكرنا آنفاً، في تخبّطاتٍ وتكرارٍ، بعدما رافقتها أزمات وهزائم، فإنّ استعراضَ بعضها قد يعطي فكرة، ولو محدودة عنها، مبيّناً أنّ بعضها قد تمّ بمؤثّرات خارجيّة، من حيث المشاركة في التخطيط أو الدعم والتأييد والمسايرة السريعة.

‏فمن محاولات قلب نظام الحُكم في العراق إلى ثورته في 14 تمّوز/ يوليو 1958، إلى الانقلابات العسكريّة في سورية منذ العام 1949، إلى الحرب الأهليّة في لبنان وثورة التحرير الجزائريّة، إضافة إلى الثورات الأخرى أو الانقلابات في السودان وليبيا، وأهمّها في أرض الكنانة: مصر، التي تمّ التحضير لها في أثناء حصار الفلّوجة خلال حرب فلسطين ‏بتشكيل نواة لتنظيم الضبّاط الأحرار، وتوصّلت إلى انقلاب عسكري في 23 تمّوز/ يوليو 1952، وتابعت بانفراد جمال عبد الناصر بالقيادة، وإبعاده المشاركين المخالفين له في ضوء كتابه "فلسفة الثورة" وتحقيقاً لإجراءات داخليّة مهّمة في الإصلاح الزراعي، وتأميم الشركات الكبرى، وتعميم التعليم المجّاني، بما فيه الجامعي، وتطوير الجامع الأزهر إلى جامعة شاملة، وبناء السدّ العالي، وتأميم قناة السويس؛ لكنّ ذلك كلّه، وعلى الرّغم من الشعبيّة الكبيرة التي حظيَ بها عبد النّاصر في مصر والأقطار العربيّة، اعتمدَ على أجهزة الأمن في مُلاحَقة المُعارَضة، وفرْض النظام الأمني في غالب مدّة حكمه، ما أعاق مفهوم التغيير السياسيّ المطلوب بمسيرته الديمقراطيّة، والتي رفع شعارها الثلاثي في تنظيمه الأخير: "حريّة، اشتراكيّة، وحدة".

وهكذا كان حال أغلب حركات التغيير التي قادها عسكريّون، حيث توالت الهزائم والانقسامات، وصولاً إلى ما يسمّى "الربيع العربيّ" الذي جاءت نتائجه مخيّبة للآمال! ‏بحيث تساقطت أنظمة الدول التي حظيت "بالربيع" مثل تساقُط أحجار الدومينو، وذلك جرّاء توجيهٍ مُنحرِفٍ وتدخّلات خارجيّة كبيرة واضحة، سواء في ما يتعلّق بالأنظمة أم بالحراك الشعبيّ عَينه.. وحدثت انقسامات في ظلّ إجراءات عربيّة وحدويّة ضعيفة، مثّلتها جامعة الدول العربيّة ومؤتمرات القمّة، والاتّحادات الإقليميّة الضعيفة أو الميّتة قبل تشكيلها، كما هو حال اتّحاد الجمهوريّات العربيّة، أو الاتّحاد المغاربي، أو ما شابههما.

‏ثمّة عوامل عدّة تؤثّر في نجاح التغييرات، لا بدّ من ذكرها، ولو باقتضاب، منها:

1- كسر حاجز الخوف

2- الرغبة العامّة في التطوّر لدى عامّة الشعب

3 - وجود حالة تماسُك اجتماعيّ قويّ مع مشاعر الوحدة الوطنيّة

وأخيراً موقف القوّات العسكريّة، وعدم تدخّلها في الحياة السياسيّة.

‏لقد أدّى الاستعجال المريب في اختصار المرحلة الانتقاليّة للتغيير المأمول قبل هندستها سياسيّاً على نحو واقعيّ ومنظّم، إلى المغامرة بمصير الدولة، وصار الحال، وكأنّ الدولة لم يكُن لها تاريخ ووجود قبل حركة التغيير.

‏إنّ الصحوة التي يعيشها المجتمع العربيّ في غالبيّة أقطاره اليوم، والتي تؤكّدها وسائل الإعلام، والمؤلّفات السياسيّة والاستراتيجيّة الكثيرة، والمؤسّسات الثقافيّة والفكريّة المنتشرة في أغلب الأقطار العربيّة، والعاملة على نشر الوعي العامّ والإنجازات التي تتمّ، حاملة أبعاداً تطويريّة إيجابيّة، شاهدٌ على أنّ الثقافة السياسيّة اختارت طريق التغيير ثقافيّاً واجتماعيّاً، وبالتالي سياسيّاً، من ضمن إطار طموحاتها، لتجاوُز إرث الظلم المُترافِق مع الإرث المحافظ على التخلّف في مجالات كثيرة؛ وللتواصل بندّيّة إيجابيّة مع المسيرة الحضاريّة العالَميّة المعاصرة، والتي هي تأكيد في الوقت نفسه على أصالتها، والبُعد الإنساني الذي تحمله، وعلى قدرتها الدائمة، وفاعليّة شعبها في المحافظة على عزّته وسيادته وفق ما بيّناه في أهداف التغيير السياسيّ في بلادنا العربيّة.

وهو ما نتطلّع إليه، وتعمل له النُّخب والجيل الصاعد من أبناء الأمّة بشابّاتها وشبابها.

*أستاذ جامعي وكاتب وإعلامي سوري