لا تختلف مهنة الصحافي عن النجار وبائع المجوهرات والمدرّس بكونها مهنة حقيقية لها تقاليدها وتمنح صاحبها إحساساً بالمعنى والإنجاز.
لكن على عكس، تقريباً، كل المهن الأخرى تعرضت مهنة الصحافة خلال سنوات طويلة وخصوصاً الأخيرة لتدخلات واعتداءات من تيارات عديدة ممن لا يدركون أصولها ولا يفهمون طبيعتها ومع هذا يفتون فيها وكأنهم ولدوا في غرف الأخبار وبين مطابع الصحف.
من النادر أن ترى مهندسا يدّعي أنه يفهم الطب أكثر من الأطباء ولا يكتفي فقط بلومهم على جهلهم بالجراحة وأمراض الباطنة ولكنه يقرعهم ويشكك بنواياهم. وكذلك لن تجد سباكا يعلّم الخبازين كيف يعجنون الخبز ويحضرون الفطائر.
لكن مع الصحافة الوضع مختلف والباب مفتوح. سائقو التاكسي والجزارون والوعاظ والمحامون والجميع تقريبا يلعب دور الخبير والمفتي والقاضي والجلاد في وقت واحد.
هؤلاء المتدخلون أصناف عديدة ولكل دوافعه المختلفة عن الآخر. ولكن قبل أن نعلّق عليهم من المهم أن نتذكر ماهي الصحافة كمهنة محترمة. هي كما يقال البروفة الأولى للتاريخ لقدرتها على التقاط ما يدور في العالم من أحداث سعيدة وتعيسة ونقلها للمشاهدين والقراء أينما كانوا. وعلى عكس مهن أخرى كثيرة، الصحافة مهنة إبداعية تستحث ملكة الخلق والابتكار عند الصحافي لأن الأحداث متغيرة كل دقيقة ويستحيل أن تتناولها بذات الطريقة كل مرة. العنوان الذي تكتبه عن عملية إرهابية لن تعيده مرة أخرى والمقال الذي تنشره اليوم لن تنشره مرة أخرى أبدا.
ملكة الإبداع سحبت من الصحافي وتلبسها الشعراء والأُدباء لسبب بسيط. الصحافي شخص منظم ويعمل يوميا من الصباح للمساء ومتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية بحكم عمله. الصحافي والصحافية، على عكس مدعي الفلسفة والشعر، لا ينكش شعره ويتحدث عن الوحي والإلهام المتمنع ويزعم أنه يحل أسرار الكون ويشتكي من جهل الناس وبأنهم لا يفهمون فكره ولم يقدروه حق قدره. هذه الصورة التقليدية الرثة للمبدع تنازل عنها الصحافي واكتفى بالعمل بصمت. في تقاريره ومقابلاته وعناوينه ومقالاته حجم إبداع يفوق جميع دواوين الشعر والروايات المتراكمة التي لم يقرأها أحد. الصحافي يملك قدرة ساحرة عندما يخلق من العدم مادة صحافية يتداولها الناس وفي أحيان كثيرة يتواضع ولا يكتب اسمه عليها. الصحافة تتميز بأنها منصة قوة وتأثير ولذلك ترى وجوه المسؤولين تتوتر إذا سلطت عليها الكاميرات أو اقتربت منها أجهزة التسجيل.
الصحافة مهنة رفيعة ومعقدة وتحتاج لصبر وأعصاب حديدية لكي يستمر بها الفرد. على عكس مضيفي الطيران هي مهنة عقلية بالدرجة الأولى والنشاط العضلي تكميلي. الصحافة في سباق لا ينتهي مع الوقت. سنوات طويلة لكي تتطور بها وهي رحلة صعود لا تنتهي. ومع هذا تعرض الصحافيون لهجمات وصلت لحد التشكيك في الانتماءات الدينية والولاءات الوطنية.
أول المهاجمين وهم الجماعات المحتشدة في وسائل التواصل الاجتماعي وهؤلاء باتت السخرية والتقليل من الآخرين جزء من تركيبتهم الذهنية والنفسية مع أن كل ما يقومون به في الحياة هي كتابة 140 حرفا في تغريدة. لا يفهم هؤلاء أن الصحافة كأي مهنة في العالم وبسبب الطبيعة البشرية تحتمل الخطأ (مع الصحافة أكثر بحكم العمل على مدار الثانية). التغريد ليس وظيفة ولن يتم أبدا تخصيص كليات جامعية له تدرس مناهج عنوانها "مبادئ في التغريد" أو "مدخل إلى التغريد". أدخل هؤلاء الناسَ في مزاج تخويني مؤامراتي. لم تكتف فقط بتسخيفهم بجعلهم يكتفون بقراءة التغريدات وليس المقالات والتقارير المعمقة؛ بل جعلتهم شخصيات منتفشة لا تتردد في طرح الأحكام على الآخرين بالعمالة والمروق من الدين بدون أن يهتز لها جفن. ولأن الصحافة والصحافيون في الواجهة فقد تعرضوا بشكل مستمر للتلطيخ والتشويه.
الصنف الثاني هم المؤدلجون المتطرفون الذين يحاربون الصحافيين بشكل مستمر ومنذ سنوات طويلة؛ لأنهم يريدون أن يسيطروا تماما على مصادر القوة والتأثير، ولكي لا يقف أحد بوجه دعاياتهم المستمرة. يلطخ هؤلاء سمعة الصحافيين لأنهم ينقضون المشروع الفكري المتطرف الذي يروجون له ولهذا يحتفون ويهللون لجميع وسائل الإعلام التي تتبنى خطابهم أو تتقاطع معه. لا يقدرون الصحافة إلا إذا كانت "بروباغندا" ويعتبرون الحيادية والنزاهة التي تمثل جوهر الصحافة الحقيقية خيانة وتصهينا.
الصنف الثالث هم بعض المثقفين والأُدباء الموتورين الذين يسخرون من الصحافة ويصفونها بالسطحية ومع ذلك لا يترددون بالكتابة بها والظهور على شاشاتها في كل مناسبة. شخصيات استغلالية يتعاملون معها على طريقة "مأكولة مذمومة". جزء من حنقهم هو حقدهم على الصحافيين بسبب شهرتهم التي يعتقدون بسبب نرجسيتهم المفرطة أنهم أحق بها. وبسبب العجز عن مواكبة ركض الصحافي اليومي والمتعب، يتمحور حديثهم المتكرر عن ضحالة الصحافة رغم أن كتبهم عبارة عن تجميع مقالات لهم نشروها في الصحف سابقاً.
من الطبيعي أن يخطأ الصحافيون ويتراجع مستواهم، ولكن هذا لا يقلل من قيمة عملهم ولا يلطخ المعنى الحقيقي الرفيع لمهنتهم. ومن الطبيعي أيضا أن تهاجمهم تيارات لأسباب متعددة ولكن من الخطأ أن ينجرف عموم الناس في هذا الفخ المصمم لهم بإتقان. ولعل الرد المناسب والمنطقي الذي يمكن أن يوجهه الفرد لهؤلاء المتحاملين مع كل حملة هجوم وتشنيع وتكفير ظالم على الصحافيين يكون: "نعم الصحافيون بشر يخطئون ويصيبون. لكن أنتم ماذا قدمتم؟!".