ركَّزت قيادة الثورة الليبية، خاصةً القذافي، على الوحدة العربية، ولم تترك فرصةً أو مناسبةً إلا وعقدت اتفاق وحدة مع دولة عربية، وأهمُّ هذه الاتفاقيات: ميثاق طرابلس بين ليبيا ومصر والسودان في 6/6/1970 لإقامة اتحاد بين الدول الثلاثة،
ثمَّ الاتفاق على قيام اتحاد الجمهوريات العربية الثلاث ما بين ليبيا ومصر وسورية في 17 نيسان 1971، الذي بقي قائماً بين الأقطار الثلاثة حتى زيارة السادات للقدس وسيره في طريق الصلح المنفرد مع الكيان الصهيوني. ووقَّع القذافي "اتفاق وجدة" مع تونس لقيام اتحاد بين الدولتين في 12/1/1974، لكنه تعثَّر ولم يستمر أيضاً، كما قام اتحاد دول المغرب العربي بين ليبية وتونس والجزائر والمغرب وموريتانية في 17/12/1989، وهو مُعطَّل منذ مدة طويلة، بسبب الخلافات السياسية والحدودية. ومع أن القذافي قد أعلن أنَّه لا ييأس من تحقيق الوحدة العربية، فقد حول جهوده نحو الوحدة الإفريقية، وكان له دور مهم في توقيع ميثاق الاتحاد الإفريقي عام 2002.
أما البعد القومي الوحدوي فقد ظل يشكل بعداً مهماً في توجهات ثورة الفاتح من سبتمبر، وزعيمها القومي العربي الكبير معمر القذافي وسعيه ونضاله الدؤوب في سبيل تحقيق الوحدة العربية الشاملة بين جماهير الأمة، التي تجمعهم عمق الروابط الاجتماعية والتاريخية، بما يكفل تحطيم البوابات الإقليمية والقطرية المصطنعة، والحواجز الوهمية، وإزالة الحدود التي كرسها الاستعمار بين أبناء الأمة العربية الواحدة. ولقد قدمت ليبيا نموذجاً للروح الوحدوية، بأن جعلت من أراضيها أرضًا لكل العرب، وأرست مبدأ المساواة بين المواطن الليبي والعربي، في كل الحقوق والواجبات.
كما كانت مواقف ليبيا بزعامة القائد معمر القذافي، تجاه القضايا العربية ومنها قضية فلسطين والقضايا الأخرى، وكذا تجاه القضايا الإسلامية والإقليمية والدولية، مواقف راقية وشجاعة للغاية ، بما يضع ليبيا في الريادة خدمة لقضايا الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، وخدمة لمصالح الأمة العربية والإنسانية.
الحروب والنزاعات
بات خلاف بين ليبيا وتشاد على منطقة أوزو الحدوديَّة، وقامت حروب متتالية بين الطرفين، ثم استعادتها تشاد سنة 1994. وكانت المشكلة الأخرى هي قضية الغارة الأمريكية على ليبيا مستهدفة بيت القذافي في طرابلس في 15 نيسان 1986، بأمر الرئيس الأمريكي ريغان، والسبب هو موقف الثورة المعادي لأمريكا كدولة امبريالية خطيرة على العرب والعالم.
أدخل العقيد القذافي أسلوباً جديداً في الحكم، لا يخصُّ ليبيا وحدها ولا العرب أو المسلمين، وإنَّما هو نظام عالمي جديد، قائم على نظرية شاملة تبناها ورآها حلاً لمشكلات العالم أجمع، وسُمِّيت "النظرية العالمية الثالثة" إذ إنَّ النظرية الأولى تخصُّ الرأسمالية والنظرية الثانية تخصُّ الشيوعية والاشتراكية، أمَّا النظرية الثالثة، فتقوم على الإسلام والاشتراكية والإنسانية والتقدُّم، وهي أُسُس المجتمع الجديد للتحرُّر من أدوات الحُكم القديمة.، ودُوِّنتْ هذه النظرية في "الكتاب الأخضر".
القواعد الأجنبية السابقة
كان لبريطانيا قاعدتان عسكريتان في ليبيا، جويَّة وبحريَّة، وكان للولايات المتحدة الأمريكية قاعدة جوية في الملاحة (ويلز)، واتصلت الدولتان مع قيادة الثورة بشأن القواعد، وأعلنت الحكومة الأمريكية اعترافها بالثورة مقابل احتفاظها بقواعدها في ليبيا بحسب الاتفاقيات السابقة واستمرار التعاون بين البلدين. وتقدَّمت بريطانيا بطلب مماثل، لكنَّ قيادة الثورة طلبت الجلاء عن القواعد، وتمَّ الاتفاق على ذلك بلا معوقات فعليَّة، أو مقاومة عسكريَّة، وتمَّ جلاء البريطانيين باحتفالات شعبية عظيمة في 30 آذار 1970، كما جلت القوات الأمريكيَّة عن قاعدتها في 5 أيار من العام نفسه، وتحرَّرَت ليبيا من القواعد الاستعمارية.
أعلن القدافي بعد العام 1977 ، ما أسماهُ "قيام سلطة الشعب و مولد أول جماهيرية في التاريخ"، كمفهوم لأول نظام سياسي بعد الجمهورية، وتخلى معمر القذافي رسميًا عن رئاسة مجلس قيادة الثورة، وأصبح قائدًا للثورة، وصار الاسم الرسمي لليبيا هو "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية"، واكتفى القذافي بدوره التحريضي والترشيدي الذي قام به. رغم أن إرشاداته وآرائه مجبر الأخذ بها وتطبيقها. القذافي ي
وقام القذافي بتأسيس حركة اللجان الثورية في العام 1977.
دوَّن القذافي "النظرية العالمية الثالثة" في "الكتاب الأخضر"، في العام 1977، وهو كتاب صغير مُؤلَّف من ثلاثة فصول، شرحت ما معنى سلطة الشعب، و كيف يمكن تطبيقها كحل نهائي لمفهوم الديمقراطية؛ كما طرحت و شرحت حلول نهائية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. ولقد اعتبر الكتاب الأخضر الإطار و المنهج السياسي في ليبيا، وجرم الأحزاب ومنعها. اختصَّت فصول الكتاب الثلاثة في الآتي بالتوالي:
1- وفيه الحل للمشكلة الديمقراطية، ويسميها بسلطة الشعب، وينص على رفض أدوات الحكم التقليدية كالمجالس النيابية والأحزاب والطبقات والانتخابات، والاعتماد على المؤتمرات الشعبية التي تُصعِّد لجاناً شعبية، وتشكِّل في مجموعها المؤتمر الشعبي العام، مع التأكيد على أن شريعة المجتمع هي العرف والدين وما عداهما باطل.
2- وفيه حلُّ المشكلة الاقتصادية، وينصُّ على تحرير العمال من عبودية العمل، ووجوب مشاركتهم في إدارة العمل وإنتاجه، وينصُّ على أنَّ الحاجة تكمن في الحرية، والبيت لساكنه، والأرض ليست ملكاً لأحد، والمنزل يخدمه أهله، ولا أُجَرَاءَ في المجتمع الاشتراكي.
3- وفيه حلُّ المشكلة الاجتماعية، ووجوب اعتماد الأسرة والقبيلة والأمة والمرأة والأقليات والتعليم والفنون والرياضة.
النظر نحو إفريقيا
لعبت الدول الأفريقية دورًا هاما في تليين موقف أمريكا وبريطانيا، في القبول بالشروط الليبية بشأن قضية لوكربي، وذلك باتخاذها قرارًا في قمة واجادوجو لرؤساء دول وحكومات منظمة الوحدة الأفريقية، بكسر الحظر المفروض من مجلس الأمن الدولي على ليبيا، بحلول شهر أيلول/سبتمبر من نفس العام الذي عقدت فيه القمة ما لم تستجب الدولتان للشروط الليبية . ولعل هذا ما دعم توجهات معمّر القذافي الأفريقية، خاصة وأن الظروف الدولية قد شهدت العديد من المستجدات التي تدفع باتجاه توحيد القارة؛ فأسس في العام 1989 تجمع دول الساحل والصحراء، الذي يضم الآن 23 دولة في عضويته ، كما بذل معمّر القذافي عقب ذلك جهودًا حثيثة، لتطوير منظمة الوحدة الأفريقية وتحويلها إلى الإتحاد الأفريقي ، وهو ما نجح فيه بالفعل في قمة سرت للقادة الأفارقة، التي عقدت في 9 أيلول/سبتمبر 1999، والمعروف ب9.9.1999، والتي صدر عنها إعلان سرت الشهير؛ كما فتح أبواب ليبيا على أفريقيا بصورة واسعة ليست عليها من قبل؛ أيضًا فقد سعى حاليا إلى قيام الولايات المتحدة الأفريقية؛ ورعى مباحثات السلام في دارفور.
نظرية القذافي في الحُكم
قدَّم معمر القذافي نظرية سياسية في الحكم، تقوم على سلطة الشعب عن طريق الديمقراطية المباشرة؛ من خلال المؤتمرات الشعبية، كأداة للتشريع؛ واللجان الشعبية، كأداة للتنفيذ.
ألَّف الكتاب الأخضر في سبعينيّات القرن العشرين، فشمل نظرية تطرح الاشتراكية بصورة لم تظهر من قبل.
وعن رأي القذافي في مشكلة الشرق الأوسط ، فقد كتب في الكتاب الأبيض "إسراطين"، الذي أورد آراء وتصورات لعرب ويهود وساسة من الغرب، ومشاريع دولية تزكي وتؤيد الحل الذي يقترحه في الكتاب الأبيض، بإقامة دولة واحدة مندمجة للفلسطينيين واليهود (إسراطين)، ووفق قراءة ورؤية لجذور المشكلة ومسبباتها وأبعادها.