قاد صلاح سيارته التوارق في شوارع مدينة نواكشوط متوجها إلى مطعم سافانا كافيه للقاء ثلاثة أشخاص في انتظاره .. توقف صلاح عند الإشارة الضوئية وفي أقل من ثانية فُتح باب السيارة
وصعدت امرأة منقبة .. جلست بجانبه وأغلقت الباب وراءها بهدوء وثقة .. وهو ينظر مذهولا مستغربا دون أن يفهم شيئا مما يحدث .. كل ما يراه شبح أسود ، أو كتلة سوداء متحركة .. جال ببصره من القدم حتى الرأس ؛ لعله يرى شيئا يدل على جنس الكائن الذي يسكن تحت هذه الملابس السوداء .. رجل هو أم امرأة ؟.. ولكنْ عبثا ؛ فلا عيونا ، ولا وجها ، ولا أيدي ، تمكن رؤيتها من خلف هذا السواد .. وأمام هذا الحال نطق الكائن الساكن خلف تلك الملابس بصوت أنثوي عذب وجميل وهادئ وواثق : "عفوا .. هل تستطيع أن توصلني إلى تنويش ؟" . ابتسم صلاح وقال ساخرا:" عفوا .. ربما أخطأت .. أنا لست سائق تكسي...!" فقالت بهدوء:" أعلم ذلك .. هيا وصلني إلى تنويش" وبدون مبالاة وجد صلاح نفسه يسير باتجاه تنويش ، ونسيّ أنه على موعد هام . فكل ما كان يشغل باله هو من تكون صاحبة هذا الصوت الملائكي التي تلبس لباس من يسمون محليا بالدعاة ومع ذلك تركب سيارة رجل لا تعرفه وحتى صوتها العذب لا يشبه أصوات الداعيات ! .
أدار بوجهه نحوها وقال :" اشحالك الوالدة !؟" و على الفور أدارت وجهها نحوه وقالت له " أنا مانگد نولدك" ..
قال : "عفوا قصدي صاحبة الدعاة ".
قالت : "ولاني من الدعاة".
قال: " انت بعد ياويلك متدينة".
قالت :"ماهو إلى ابعيد".
قال:"عفوا.. هل انت مسلمة؟".
قالت:" يمكن .. اشغاديلك".
فقال مستفزا:" طيب .. اعلاش لابسة الخمار؟".
قالت: " أنا لابستو لأني لابستو".
فقال: "طيب اتگدي اتعرفيني اعليك؟".
أجابت:" أنا قدرك يا صلاح".
ذهل صلاح .. فكيف عرفت اسمه ؟ وبدأ يفكر بأشياء كثيرة وقال وهو يضحك ساخرا:" قدري آنا ؟ گولي لي ياقدري ؛ من سلطك اعليّ وگالك أسمي؟".
فقالت :" أنا قدرك أنت .. أما كيف عرفت اسمك فهذا شغلي أنا .. كأنك لا تؤمن بالقدر ".
فقال :" أنا لا أؤمن بكثير من الترهات...!".
قالت :" إذا اعلم من اليوم أنك سوف تؤمن بأشياء كثيرة ".
قال :" ما عندك مشكلة .. أقنعيني .. في البداية گولي لي أسمك .. والل انتمّ اناديك (قدرك) ؟" .
فقالت :" قدرك أنت".
فقال:" أوكي .. ياقدر ي أگلعي عن وجهك".
فقالت :" اشلك باتشوفني؟ "
فقال:" امالك گلتي انك قدر ي ؟ .. نبغي نعرف كان قدري راجل والل امرة والل إنس والل جان والل شبيبة والل فترانة ؟"
فقالت :" ههههه لا تخاف .. قدرك أزين من ذوك كاملات اللي گط شفت افْ حياتك ، يغير مانك لا اتشوفني ظرك .. اتدور اتشوفني في الوقت المناسب ".
وقال صلاح وهو مستفز والفضول يقتله :" لا بد امن انشوفك ظرك ما دمتي گلتي انك قدري .. امعني گاع كلمة قدري ماني فاهمها حتى".
فقالت :" وگف الوته لعدت تبغي اتشوفني ".
أوقف السيارة فقالت :"اگلع الخمار عن وجهي اتدور اتشوفني".
صمت صلاح حائرا مذهولا مترددا بين أن يمد يده ليرى ماذا يخفي هذا الخمار .. أيفعل ذلك أم لا ؟ .. ولكن يده تحركت نحو الخمار ، وما إن اقتربت منه حتى مسكتها يد المرأة صاحبة الصوت الجميل والخمار الأسود ، وكانت يدها ناعمة الملمس جدا ولكنها أيضا قوية للغاية .. كأن فيها قوة خارقة ؛ فثبّتت يده ووضعت أصبع يدها الأخرى على فمه وقالت :" اسكت ليس هذا وقت هذا .. ستراني في الوقت المناسب ".
وقامت بفتح باب السيارة ونزلت وابتلعها ظلام أزقة تنويش .. لا أحد يرى منها شيئا . وعاد صلاح إلى مطعم سافانا كافيه مسرعا لعله يلحق بالأشخاص الذين ينتظرونه ليجدهم قد غادروا المكان فيتصل عليهم فلا يردون .
ابتسم وقال لنفسه يالقدري السيء ! لقد خسرت الصفقة .. خسرتها لإشباع فضولي بالكشف عن سر هذه الكتلة السوداء وما تخفيه خلف هذا الخمار ... واصل صلاح سيره في اتجاه سانتر أمتير حيث يسكن وهو يفكر بسر هذه المرأة وما تخفيه ونظر إلى حيث كانت تجلس فنظر على الكرسي جمجمة صغيرة بحجم كف اليد قد زرعت في مكان تجويف عينيها كرات مطاطية ذات لون أحمر كان يشع منهما ضوء باهر ربما بسبب انعكاس الضوء عليهما .. أمسك صلاح بالجمجمة وقد سرت قشعريرة في جسمه من منظرها - رغم أنه كان يدرس معه في الخارج طلاب من كلية الطب وقد تعود على العظام والجماجم الآدمية حيث كانوا يملأون مسكنهم منها - وحينما نظر إلى الجمجمة كان منظر الفكين أقرب للإبتسامة .. تحير صلاح وقال يالقدري .. جمجمة وتبتسم ! احتار من حاجة هذه المرأة لهذه الجمجمة ولماذا تركتها معه ؟ أم أنها نسيتها دون قصد ؟ لابد أن هذا الخمار يخفي قبحا لا مثيل له ، وهذا واضح بدليل أنها تحمل جمجمة .
مرّ يوم وصلاح ما يزال يفكر بأمر هذه المراة.
شعورٌ غريب يشده إليها لا يدري سببه ..!أهو الفضول أم شيء آخر لا يعرفه..!؟
سار صلاح بسيارته دون هدف محدد ، ذهب الى تنويش حيث نزلت ، فربما يجدها هنا أو هناك...ولكن دون جدوى.
اتصل به الأشخاص الذين كان على موعد معهم البارحة في سافانا كافيه وجددوا له الموعد في مقهى عمارة الخيمة وعندما اقترب من عمارة الخيمة رأى نفس المرأة تجلس على كرسي أمام وكالة للسفريات مشهورة بإرسال طالبات الزواج الموريتانيات إلى السعودية..اقترب منها وأراد أن يحدثها لكنه كان خائفا من أن تكون هذه المنقبة التي يراها امرأة أخرى ...فكيف يميز إن كانت هي أم شبيهة بها .. وبحركة غير متوقعة اقتربت ذات الخمار الاسود من شباك السيارة.
- وقالت: اعلاش اتأخرت يا صلاح ؟...أنا نتحراك من ساعة ونص...
وصعدت الى السيارة واغلقت الباب ...وهي ما زالت تعاتبه على تأخره وكأنها
على موعد مسبق معه...بقي صلاح صامتا وعلامات الاندهاش والتعجب تظهر على وجهه والحيرة تعتصره لأنه لم يفهم شيئا مما يدور حوله.
- فقالت له :"وصلني لبوتلميت" .
أجاب صلاح:شنهو!!!؟؟؟
أجابت في ثقة:وصّلني ال بوتلميت .. ولاعدت ما تعرف مكانو امش امع اطريگـ الأمل إلين انگـولك اتوگـف .
قال صلاح في حدة : انت مجنونة ؟ انت قصتك شنهي ؟ انت من گـال لك عني جاي هون ؟ انت تشتغلي في المخابرات ؟ انت شاكه عني شوفيرك؟
أجابت في هدوء مستخف: إلى ما عاد عندك الوقت اطرحني افمحطة توجنين وانا نتصرف.
قال : انت منهي ؟
قالت: أنا قدرك
قال بلهجة الآمر:خليني من قصة قدرك .. انت اسمك شنهو؟
قالت : فايزة.. اسمي فايزة.. لاهي تطرحني افبوتلميت والل توجنين والل ننزل عنك؟
قال : لاهي انوصلك ال توجنين .. أما بوتلميت ما عنديلو الوقت.
أدار عجلات السيارة متجها نحو توجنين و فقال : فايزة.. گولي لي مارگـتها الجوقة انت كنتي تتحرايني والل بالصدفة شفتيني؟
- فقالت: انا كنت نتحراك ...انت شاك اني اشكنت انعدل هون.. نتحرى حد أوخر؟ ...على العموم إلى عدت ما تبغي اتشوفني وگـف ننزل عنك.
ومسكت مقبض الباب وهمت بفتحه ، لولا أنه اعتذر لها-وقال : نبغي انشوفك يغير ماني شايف منك ماهو هذي لعباية الكحلة !؟
- فردت عليه غاضبة وقالت: مانك امصدقني ...؟ گـلت لك أنا شبيبة.. واتدور اتشوفني في الوقت المناسب.
- رد عليها صلاح بصوت غلب عليه الحزن واليأس وقال: فايزة گـولي لي .. انت امرة أنا نعرفها وتبغي اتجوق امعاي من أورا هاذا الخمار والل فيه حد امشيك لي إياك اتجنيني.
-قالت: لا..انا ما نعرفك ولا فيه حد امشيني لك ..يغير من اللحظة لوله اللي شفتك فيها عدت قدرك..واتدور تعرف عني كل شي .
- قال لها : كيفاش ...؟!
وجد صلاح نفسه يتجاوز كل محطات توجنين دون أن يتوقف فقد كانت الرحلة مشوقة للغاية وكان هناك دافع خفي يجعله لا يحب أن يفارق هذا الكائن الغريب إلى أن دخل وسط مدينة بوتلميت .
- قاطعته وقالت له :وگف هون ميرسي .
غادرت "فايزة" الغامضة وبدأت تسير على قارعة الطريق بين الناس دون أن يعيرها أحد انتباهه ، وتعجّب لكونه لم ير أحدا من سكان بوتلميت الفضوليين ينظر إليها خصوصا أن لباسها غريب إلى حدٍّ ما ، حتى اختفت بين الزحام.. وعيون صلاح لم تعد تستطيع ملاحقتها فاخذ بالإبتسام مستسخفا مما يحدث وقد اتخذ قرارا ان لا يفكر في هذه المرأة الغامضة التي تود فقط ان تثير فضوله في لعبة ذكية ..فلا بد ان يكون من ورائها أحد ربما من الأشخاص الثلاثة الذين كان على موعد معهم لإجراء صفقة معقدة ومتشعبة .. ثم تذكر أنه لم ير أحدا من السلطات التي ترابط على الطريق ينظر إليها أو يتفحص فيها ..وعاد إلى نوكشوط واتصل على أولئك الأشخاص الذين كان على موعد معهم في مقهى عمارة الخيمة فلم يردوا عليه فذهب إلى مكتبه ليشغل نفسه ولكنه فشل في ان يطرد خيالها من مخيلته واخذ يسأل نفسه: ما الذي يشدني الى هذه المقنعة ؟ إلى هذه الكتلة السوداء؟ هل هو الفضول أم أن أسلوبها المثير قد أثّر بي؟
ما إن وصل صلاح إلى مكتبه حتى بدأ يقوم باتصالاته لترتيب عدة مواعيد لعمله ...وقال إن هذا أفضل له بدل التفكير بسخافة هذه المرأة وسهر في مكتبه لدراسة بعض الملفات إلى أن اقترب الوقت من منتصف الليل فقرر العودة الى منزله ، وما إن انطلق بسيارته حتى فوجىء بالمرأة "صاحبة الخمار الاسود " تشير بيدها له ليتوقف ...دق قلبه بسرعة وأصابه شعور غريب لم يعرفه من قبل ...شعور ممزوج بخوف رهيب من المستقبل ...وسعادة غامرة لرؤيتها ..توقف واقتربت المرأة من السيارة وفتحت الباب ورمت بجسدها الملفوف بالسواد على الكرسي.
وقالت :صلاح ممكن اتوصلني ال ترتلاس؟
صلاح : شنهو؟ الصالحين في الليل !؟
فايزة: انت امالك مذلّك !؟ گايسة صاحبتي.
صلاح: صاحبتك في الصالحين!؟
فايزة : يا خوي ترتلاس اطويلة واعريظة ماهي أللا الصالحين .. احذاها فرگان وحواضر ياسرين.
صلاح : ذاك اصه گولي الشريعة.
فايزة : الشريعة أللا هي ترتلاس .. الكلمتين معناهم واحد .. الشريعة تعني المحاكمة والمقاضاة بالحسانية القديمة وترتلاس تعني نفس الشيء باللغة البربرية اللي كانت مستعملة عند أهل المنطقة.
صلاح: انت امضيعتك الثقافة .. ذا كامل من علمولك؟
فايزة : اتدور تعرف كل شي في الوقت المناسب.
لم يستطع صلاح الرفض بل وجد نفسه يسير في طريق روصو المؤدية إلى مقبرة ترتلاس دون أن يطيل الجدال او يأبه إذا كان عليه العودة الى البيت أوإذا كان أحدهم بانتظاره ...خيم الصمت لدقائق طويلة عليهما كانت كانها سنوات ...لم يتكلم أحدهما وكأن كلا منهما سارح في تفكير عميق.. إلى أن نظر صلاح إلى المرآة التي أمامه فتوقف قلبه .. رأى ذلك المشهد المرعب .. إنه أبشع مشهد يراه في حياته .
(أيها القارئ المحترم.. إذا كنت من أصحاب القلوب الضعيفة فلا تقرأ بقية القصة وإن كان قلبك صلبا فتابع بقيتها المرعبة والمشوقة في عدد الغد من يومية أخبار الحوادث)