كم تليق به القصيدة وكم هو يليق بها أحمد فرحات*

 

 

في حديقة دارته في بلدة "غزير" الجبليّة اللّبنانيّة، وتحت شجرة اللّيمون الأثيرة على قلبه، استقبلني الشاعر يوسف الخال أكثر من عشر جلسات مُتقاربة الأيّام والتواريخ، كانت أولاها في الخامس من شهر أيّار/ مايو من العام 1984، وكان هدفي من تلك الجلسات أن يحدّثني عن قصّة تأسيسه مجلّة "شعر"، وصدورها في العام 1957، والظروف والعوامل المحيطة بهذا الصدور، والاتّهامات التي كانت تُكال له من خلالها بصفته رئيساً للتحرير فيها، فضلاً عن صراع منبر "شعر" اللّيبراليّ، المُعلَن والخفي، مع منبر مجلّة "الآداب" اللّبنانيّة ذات النكهة الوجوديّة في البداية، ثمّ في ما بعد انتهجت الخطّ العروبيّ المفتوح، أدبيّاً وثقافيّاً، وقد تنكّبهما الأديب المؤسِّس سهيل إدريس ببراعةٍ ملحوظة، جاعلاً من "الآداب" التي سبقت "شعر" إلى الصدور بثلاث سنوات، منبراً أدبيّاً عربيّاً ذائع الصيت وواسع الاستقطاب.

ومن أبرز ما أتذكّره من تلك الجلسة تحت اللّيمونة، أنّني طلبتُ تعليقاً من الشاعر يوسف الخال، على ما كان ساقه بحقّه الشاعر العراقي عبد الوهّاب البيّاتي، عندما صرَّح للصحافة اللّبنانيّة: "يوسف الخال قومسيونجي الثقافة الغربيّة، يخدم في مجلّة "شعر" الثقافة الغربيّة على حساب ثقافة المنطقة العربيّة". أطرق يوسف الخال بعض الشيء، ثمّ قالَ لي بتهذيبٍ بارد: سامح الله البيّاتي وكلَّ مَن ناشَنا بلسانٍ سلبيّ مُعادٍ وقتها، وبعد هذا الوقت لاحقاً، وأَردف مُتسائلاً: هل تدري يا صديقي أحمد أنّ أوّل قصيدة نشرناها في أوّل عدد من مجلّة "شعر"، كانت للشاعر العراقي الشابّ ذي الميول اليساريّة سعدي يوسف (ابن 22 عاماً حينداك) وكان عنوانها "حكاية". وصلتنا قصيدته بالبريد العادي، وبعدما قرأتها شخصيّاً أكثر من مرّة، وقَرأها معي نفرٌ ممَّن شكّلوا نواة مجلّة "شعر": أدونيس وخليل حاوي وفؤاد رفقة ونذير العظمة، قرَّرنا جميعاً، وبحماسةٍ مُوازية، نشْرَها، مُكتشِفين من خلالها شاعراً مهمّاً وواعداً من العراق اسمه سعدي يوسف، وذلك من غير أن نعرف من هو؟ وماذا يمثِّل؟ وما هي انتماءاته السياسيّة والإيديولوجيّة؟ كان يهمّنا "هويّتة الشعريّة" ومستوى هذه الهويّة ليس إلّا.

أقنعني جواب يوسف الخال وقتذاك، وأَدَنْتُ ما كان ساقه البيّاتي في حقّه، وكذلك في حقّ العديد من رادة الشعر العربي الحديث من أقاويل ونعوت، أقلّ ما يُقال فيها إنّها هابطة، أو هي كما وصفها لي الشاعر محمّد الماغوط ساخراً: "القصائد الوحيدة المتبقّية من كلّ ما كتبه عبد الوهّاب البيّاتي من شعر".

وسألتُ "عرّاب" مجلّة "شعر" يوسف الخال: أتعتبرون احتفاءكم بنشْرِ قصيدة سعدي يوسف في العدد الأوّل من "شعر"، من قبيل اكتشافكم شاعراً جديداً تريدون ضمّه إلى فريق شعراء المجلّة لتوكيد خطّها الحداثويّ الرياديّ، أم على سبيل تشجيع الأصوات الشعريّة الشبابيّة العربيّة، ومُمارَسة نَوع من الأبوّة الحاضنة لها؟ أجابني الشاعر الخال قبل أن أكمل تفاصيل سؤالي: لست وصيّاً على أحد، ولا أباً لأحد. أنا مجرّد شاعر، وصاحب مشروع إعلامي شعري جديد، كان يهدف من خلال منبره خدمة الإبداع العربي الحديث وتقديمه، أوّلاً للعالَم العربيّ، ومن ثمّ بعد ذلك للعالَم بأسره. نعم، ربّما يكون سعدي يوسف قد استفاد من هذه اللّحظة التاريخيّة، وبنى عليها، بخاصّة أنّ منبرنا كان يؤسِّس لنهضةٍ إبداعيّة ونقديّة عربيّة مفارِقة، تُطلّ من بيروت كمدينة عربيّة هي الأخرى طليعيّة ومفارِقة. وإذا ما سألتني رأيي بتجربة الشاعر سعدي يوسف في ما بعد، ومن خلال دواوينه التي كان يحرص على أن يرسلها لي فَور صدورها، الواحد بعد الآخر، وكنت أقرأها، طبعاً، بعقلٍ نقدي وتقويمي مستغرق، فإنّني أجيبكَ بأنّه الأهمّ بين الشعراء العراقيّين بعد بدر شاكر السيّاب الذي قصفه الموت مبكّراً وقبل اكتمال بَدره الشعري، عراقيّاً وعربيّاً.

نعم، سعدي يوسف الذي فقدناه في حزيران/ يونيو من العام 2021 عن عمرٍ ناهز الـ 87 عاماً، ووُري الثرى في مقبرة "هاي غيت" في لندن، وبلا مشيّعين، بناءً على وصيّته، كان الأميَز بين الأصوات الشعريّة التي عرفناها في جيله العراقي التالي لجيل الحداثة الشعريّة الأولى، ومنهم (أي من جيل سعدي): حسب الشيخ جعفر ومحمود البريكان وفاضل العزّاوي وسركون بولص وغيرهم.. وغيرهم.

وميزة سعدي يوسف أنّه تابَعَ بدأب الكتابة الشعريّة، وتفرَّغ للتجريب الشعري، حتّى آخر لحظة من حياته، وكان يعتبر القصيدة سبباً فعليّاً لبقائه على قَيد الحياة، وصموده في هذا العالَم الذي "لم ولن تنفع معه أيّ عمليّة إصلاح حتّى الآن"، حسبما أفاد لي في آخر اتّصال هاتفيّ أجريته معه قبل سنة من رحيله.

مراراً التقيتُ بسعدي يوسف، في بيروت وباريس وقبرص وعمّان، وفي كلّ مرّة كنتُ ألتقيه فيها، كان يظهر على الدوام بشوشاً، لطيفاً، دمثاً، لا يُحمّلك عبء شيء من أعبائه الداخليّة الثقيلة، بل كان يحرص، وبجسارةٍ ملحوظة، على إخفاء هذه الأعباء فور لقائك به، صَوناً لمشاعر مَن كان يحبّهم، ويأنس لرفقتهم، وهُم في المناسبة من مختلف الأعمار والأجيال.. وحتّى الأجناس البشريّة.

وكان سعدي في الوقت نفسه يتقبّل النقد في الصميم، وبجرأةٍ نادرة.. نقد قصائده، ونقد حتّى ترجماته للشعر والرواية. وكان يُحرّضني شخصيّاً على نقد قصائده الجديدة، وكذلك ترجماته لقصائد الآخرين. أذكر أنّه طلب منّي يوماً أن أبدي رأيي في ترجماته لقصائد الشاعر اليونانيّ الكبير يانيس ريتسوس، عندما عرف أنّني كنت أوّل عربيّ تَرجم لريتسوس قصائدَ إلى لغةِ الضادّ، وقد قرأها هو بإعجابٍ شديد، كما أخبرني، في إحدى الصحف اللّبنانيّة.

كما عرف أنّني كنتُ أوّل عربيّ التقى ريتسوس في أثينا، ثمّ في باليرمو في صقلّية. طبعاً "الأوّليّة" هنا ليست امتيازاً لي، وإنّما هي امتياز للّذين أوصلوني إلى ريتسوس للمرّة الأولى في العام 1968، وهُم الشاعرة اليونانيّة ماريا سولوموس والشاعر اليوناني ديمتري سكاراتوس والناقد اليوناني جورج ديونيسيوس؛ ومن ثمّ تعرّفت بعدها مليّاً إلى ريتسوس شخصيّاً، وتعمّرت بيني وبينه صداقة شعريّة وإنسانيّة غير استعراضيّة.

كما أمعنتُ بقراءة نِتاجه الشعريّ مراراً، ولم أجرؤ على نقلِ قصائد له إلى العربيّة عن الإنكليزيّة، إلّا بعد سنوات طويلة، وبعدما أخذتُ وعداً قاطعاً من المُستعرِب اليوناني الصديق جورج ديمولدو بمُقارَنةٍ تقويميّة لما سأترجمه من قصائد لريتسوس بالعربيّة بأصولها اليونانيّة، ومن دون أيّة مُجاملة. وكانت المفاجأة بالنسبة إلى المُستعرِب اليوناني، أنّ ما قمتُ به من تعريب، كان الأقرب إلى جوهر الروح الشعريّة الريتسوسيّة، وقد نقلَ ذلك بفخرٍ إلى الشاعر ريتسوس نفسه الذي علّق قائلاً: "الآن ارتحتُ إلى أنّه صار لديّ قرّاء بالعربيّة، هذه اللّغة الشعريّة الاستثنائيّة أكثر من أيّ لغة حيّة أخرى، ومَن لم يُنقل شعره إليها لن يكون في الحدث الشعريّ العالَميّ كما ينبغي".

حتّى في القُفلة المفاجئة

لا أدري كيف وَصلتْ هذه المعلومات إلى مسامع سعدي يوسف، فطلبَ منّي بتواضع الكبار، أن أطّلع على ترجماته لقصائد مُنتخَبة من ريتسوس، كان هو نَقَلَها إلى العربيّة عن الإنكليزيّة، وصَدرت في كتاب تحت عنوان: "إيماءات" - 1979، وأن أبدي رأياً صريحاً فيها.. فأخطرته بعد قراءتها مليّاً، بأنّه قد نجح في التقاط الروح الشعريّة لريتسوس وبثِّها بالعربيّة بمستوياتٍ ذاهلة وخلّاقة؛ وأنّه عبرها كان يراود المعاني ويرتادها، أحياناً في إهابها الشعريّ، وأحياناً أخرى في ما قبل هذا الإهاب وبعده؛ وأنّ الرابح الأكبر في النتيجة هنا، كان الشعر بعَينه، ومعه قارىء الشعر الجدّ بوجه عامّ.

والأهمّ في سعدي يوسف الشاعر بعد، أنّه كان لا يخفي تأثُّره العميق، بل والتحوّلي أيضاً، بشعريّة يانيس ريتسوس، إنْ لجهة اللّجوء إلى قصيدة التفاصيل اليوميّة، المُهمَل منها والحيوي المتشظّي، أو لجهة تعزيز إظهار الباطنيّ واللّامرئيّ فيها على المحسوس أو المادّيّ المباشر.

كما لاحَقَ سعدي القصيدة الريتسوسيّة، حتّى في قفلتها المفاجئة الأخيرة، فحاكاها في الكثير من قفلات قصائده القصيرة؛ و"تقمَّصَ" أحياناً، حتّى جناح النشوة الروحيّة لشعريّة ريتسوس، وهي تُحلِّق فوق الأشياء لاستنطاقِ معناها والتزيّي به من جديد، رَسماً وترسُّماً.

يعترف سعدي يوسف بذلك كلّه، ودائماً بلغةِ الشاعر الواثق بنفسه، وبجمهوره، وتجربته التي حَفرت عميقاً في هذا الجمهور، وتنكَّبها من بعده شعراءٌ عرب كثرٌ من جيل السبعينيّات والثمانينيّات وحتّى التسعينيّات من القرن الماضي، حتّى عرفنا مع القصيدة السعديّة – الريتسوسيّة، ولادةَ نبرةٍ شعريّة عربيّة حديثة خالصة، مايَزت نفسها وبسطوعٍ عن سائر الغنائيّات الشعريّة العربيّة "الجديدة" التي ظلّت تتخبّط، مع الأسف، بإيقاعها الخطابيّ المرصوص والمُفضي باستمرار إلى نوعٍ من الملالة واللّغو المستعر إيّاه.

ومن الأهميّة الإشارة بعد إلى أنّ سعدي يوسف كان لا يقحم موقفه السياسي أو الإيديوبوجي الخفي في تضاعيف قصيدته، وإن ظلّ يَعتبر أنّ الشعر هو المعرفة الأخرى، والبُعد الآخر. كان مثل مُلهمه يانيس ريتسوس، ومُلهمه الآخر الشاعر اليوغسلافي فاسكو بوبا (ترجم قصائد لهذا الأخير إلى العربيّة وصدرت الترجمة تحت عنوان "شجرة ليمون في القلب") يرفض الشعر السياسي المباشر، بل ويحرّض عليه أحياناً، ويعتبره مجرّد طنينٍ عابر، لا يرسخ في ذاكرة أو وجدان، فالشعر شيء والموقف السياسي شيء آخر، وعلى كلٍّ منهما ألّا يسيء إلى الآخر، بخاصّة الشعر الذي خُلق ليتأبّد، لا ليتشوّه ويبور.

كان غزير النِّتاج الشعري سعدي يوسف، نَشر أكثر من أربعين مجموعة شعريّة، وجرَّب كتابة الرواية: "مثلّث الدائرة"، والقصّة القصيرة: "نافذة في المنزل الغربي"، والمسرحيّة: "عندما في الأعالي". كما أَصدر ترجماتٍ شعريّة عديدة، فبالإضافة إلى ترجماته لمُنتخباتٍ من ريتسوس، وفاسكو بوبا، تَرجم أيضاً للإسباني فريدريكو غارسيا لوركا، والأميركي وولت ويتمان.. كما أَصدر ترجماتٍ لرواياتٍ عالَميّة عدّة، وكان في كلّ ما كَتب، وتَرجم، وأَعدّ، ابن مناخٍ شعريٍّ واحد، يحاول من خلاله بلْوَرَةَ مُعادلةٍ حسيّة أخرى للوجود، تنهمر عليه، وعلى قارئه، نعيماً لا يبهت فورانه الإيحائي.. والنَّفس هنا، نَفسه، تظلّ على خطّ الإبداع، وأصل الاستشفاف في كلّ أمرٍ شعريّ أو أدبيّ يجترحه.

كان سعدي يوسف يتعلّم الشعر من النصوص الشعريّة التي يترجمها، وهو لا يُترجم أصلاً إلّا لهذه الغاية.. غاية التعلُّم، كما أَسَرَّ لي يوماً وأضاف: "علَّمني ريتسوس أيضاً أنّ الشعر يُلائم الفكر الصامت، وأنّ الفكر الصامت، هو بدوره شعر مهموس".

ثمَّ طَلب منّي أن أختزل الشاعر يانيس ريتسوس وتجربته الاستثنائيّة بكلمات، فأجبته: أهمّ ما في ريتسوس يا سعدي، هو أنّه شاعر لا يُمنِّن أحداً بامتياز الشعر.. حتّى نفسه. وأنّ القصيدة لديه يُمكن أن تُؤدّى بغير الألفاظ والكلمات، إذ إنّ هذه الأخيرة ليست كلّ شيء في عمليّة الإبانة والإفصاح، وأنّ علينا دوماً أن نرى، في الشعاعات الظاهرة والشعاعات الباطنة، نوعاً من هتافٍ خصوصي يُمكن أن نسمّيه الشعر.

سعدي يوسف.. كم يُلائمك الشعر يا صديقي، وكم أنتَ بالتأكيد تُلائمه.

*مؤسّسة الفكر العربي