أنتهيتُ للتو من قراءة رواية "ساره" Saara لصديقي الروائي الموريتاتي المتألق أمبارك ولد بيروك "شيخو" علما. وهذه الرواية هي آخر ما صدر لهذا الكاتب المبدع الذي يكتب باللغة الفرنسية ويرفض أن يُضنّف بأنه ناطق بالفرنسية. وهي الرواية السابعة في عنقود الإبداع الأدبي الجارف لهذا الكاتب المتميز. وتأتي رواية Saara بعد رواية Le Griot de l’Emir، ورواية
Le tambour des larmes، ورواية Je suis seul، ورواية Parias، ورواية le silence des Horizons، ورواية Et le ciel a oublié de pleuvoir .
يتميزُ الروائي بيروك بأسلوب سردي آسر، فرَضَه هو على اللغة الفرنسية ذاتها. إنه يكتبُ بلغة "موليير" بطريقة تُذكرك بأساليب جهابذة الكتاب الفرنسيين من أمثال "فيكتور هيغو"، و"آلبير كامو"، و"أميل زولا"، و"مارسيل بروست"، و"أندريه مالرو"، ولكنه في نفس الوقت، يكتب الفرنسية بروح موريتانية أصيلة، تنضح بتفاصيل وجزئيات الثقافة المحلية الخاصة بالمجال الصحرواي بواحاته وحواضره القديمة، وقيم وأنماط حياة وأساطير المجتمعات الصحراوية على تعددها. ويظل بيروك مسكونا بهوى الصحراء ومفردات حياتها اليومية حتى من حيث الشكل، فها هو يستوحي غلاف روايته الجديدة "سارة" من "ارگاط خيمه" موريتانية وسط بيئة واحاتية جميلة..
صدرت هذه الرواية الجديدة في تونس منذ شهرين تقريبا عن دار النشر Elyzad. . تدور أحداث الرواية بين أطار – مسقط رأس الكاتب- تلك المدينة التي تصور الرواية صراعا وجوديا تعيشه بين تأثيرات الحداثة الغازية ونوازع المحافظة على القيم، ومحيطها القريب وهو واحة "الواد" حيث يعيش مجتمع صوفي عند سفح جبل "الفناء" القريب من المدينة، والذي تصدر منه في المساء أصوات غريبة.. وعلى هذه الخلفية العجيبة يُعيد الكاتب رسم هذا الفضاء الجغرافي بتضاريسه ومعالمه وبأحيائه وساكنته المجتمعية وحياتهم اليومية ضمن فنتازيا سردية خيالية، تأملية، فلسفية ووجدانية رائعة.
تحكي الرواية -بأسلوب بيروك الجذاب ولغته الفرنسية الجزلة والرصينة التي تتطلب من القارئ أن يحتفظ دوما بمعجم بالقرب منه- قصة متشابكة لثلاثه شخوص جمعتهم الغرابة والصدفة وفرّقتهم تصاريف الزمن الجديد المكشر عن أنيابه.
ويتعلق الأمر هنا بكل من: "ساره" تلك الشابة المتحررة التي عاشت طفولة قاسية فكانت ضحية للعنف العائلي الذي ألقى بها في هوة سحيقة؛ وهي تبدو متألقه بجمال فاتن وسط أحياء المدينة، جاذبة إليها الأنظار والأفئدة المتعطشة؛ و"جد" ذلك الشحاذ الصغير الإبن اللقيط للشحاذة الصماء والبكماء التي تعيش معه في كوخ حقير داخل أحد شعاب جبل "الفناء". لكن هذا الشحاذ الصغير داهية يتظاهر بأنه أبكم وأصم ولكنه في الحقيقة يسمع كل شيء، ويكتم غيظه بمكر إلى أن تحين لحظة الإنتقام لكرامته التي مرغها بالأرض بعض الشباب المنحرف في المدينة، فينقلب الشحاذ الصغير إلى قوة مدمرة؛
ثم هناك "القطب" شيخ الطريقة الصوفية التي تقوم على تقديس ثنائية الإيمان والعمل والمسالمة ونبذ العنف، ذلك الشاب الذي استلم "عمامة" الزعامة مؤخرا بعد رحيل والده الشيخ الكبير الذي أسس "الواد" قبل عشرات السنين، تلك الواحة الوادعة التي يعيش فيها تلاميذ ومريدو الطريقة يذكرون الله ويقدسون أرواح "الصالحين" والنساك الذين يسكنون في أعالي جبل "الفناء في الله"، بعد أن تخلوا طواعية عن كل مباهج الحياة ولم يعد لهم من اهتمام سوى الصوم والعبادة .
ولكن "القطب" هذا الشاب المتزن الذي يواجه تقلبات زمن الحداثة وهي تعصف بمجتمع المدينة القريبة من واحة "الواد" ملوّثة الحياة الروحية لمجتمعها ومهددة بانحراف قيم "الطريقة" وثوابتها اليقينية، يعاني من سلوك إدارة فاسدة تريد إقامة سد للمياه رغم أنف ساكنة الواحة التي ترى فيه مقدمة لزعزعة أسلوبهم الأصيل في الحياة والقضاء عليهم من خلال اجتياح بلدتهم الهادئة من طرف آلاف الناس الغرباء الباحثين عن فرص للثراء السريع.
إلى جانب كل تلك المصاعب، يحاول الشيخ الشاب أن يتغلب على مأساته الداخلية حيث أنه يعيش حياة عاطفية مضطربة خلقت لديه نوعا من الإنفصام لم يجد سبيلا للخروج منه بعد أن وقع في حبال الفاتنة "سارة" التي جاءت إلى "الواد" بحثا عن أمها التي خالعها والدها قبل سنوات على الطلاق منها بشرط تركها له طفليتهما "سارة" وأختها الصغرى التي هربت من المدينة فيما بعد وهي شابة غضّة.
محمد السالك ولد ابراهيم
إنها فعلا قصة مؤثرة وجريئة بل صادمة. وقد أبدع فيها الكاتب بيروك في مغامرة سردية أخرى لكنها كانت هذه المرة من نوع خاص. لقد قرر بيروك النزول إلى قاع المجتمع من أجل تقديمه كما هو طازجا بدون رتوش، وبتجرد وموضوعية. في هذه الرواية يعري بيروك المجتمع ثم يُشخصه ويُشرحه تشريحاً، مٌبينا اختلال سلوكه وعلاقاته المتناقضة.
في هذه الرواية، يحلل بيروك ويغوص في أعماق النفس البشرية بأبعادها العادية وتلك الغرائبية لدى كل واحد من شخوص الرواية الثلاثة الرئيسيين وغيرهم من الشخوص الثانوييين: "سارة" المتهتكة الجميلة وصديقاتها المحظيات "رامه" و"عزيزة"؛ وفرقة "بندجه" المحلية التي تنعش حفلات المرح في منزل "سارة" كل ليلة: "سام" الشاعر الفاجر، و"ابريكه" الطبّال المحترف، وعازف الغيثارة القواد "شيبو"، و"خروفه"المغنية السافرة، ثم هناك المجنونة الشحاذة "مامه" وطفلها الرضيع وهي زميلة "جد"، مرورا بـ "سالم" صاحب الحانوت الكذاب كما يقول "جد"، وصولا إلى العمدة الرهيب "مصطف" ونجله المنحرف "خالد".. كل هؤلاء يعطيهم الروائي بيروك الفرصة للحديث عن أنفسهم على مدار الرواية. وقد أتقن الكاتب فعلا لغة كل واحد وواحدة من هؤلاء الفاعلين في قاع المجتمع، فأحسن اختيار الألفاظ والمفردات والإشارات والإيماءات وردود الأفعال الخاصة بكل منهم..
وفي خلفية هذا المشهد المحتدم وخضم الأحداث المتسارعة، تسلط رواية بيروك الجديدة، الضوء على واقع مجتمعي مرير يعتريه الإختلال والإضمحلال وعلى معاناة إنسانية نازفة، يغذيها تفاقم المظالم وسيرورة التغييرات الجارفة التي يرويها "بيروك" بلغة شاعرية ووجدانية آسرة.
"سارة" رواية ترصد عمق التحولات المجتمعية الجارية وتداعياتها المأساوية المختلفة. وهي تشجب بشدة الظلم الإجتماعي وتدعو إلى احترام الطبيعة والإبتعاد عن الفساد، وترسيخ تقاليد نبذ الإغراءات العنيفة.
في رواية "ساره" يجد القارئ نفسه أمام نص سردي ساحر مكتمل الملامح، مليئ بالروحانية والعاطفة. إنها حقا رواية جميلة، يتقن صاحبها فن الغوص في أعماق النفس البشرية، وسبر تلافيف الذاكرة وأغوار الوجدان بطريقة تذكرنا بعوالم عمالقة الروائيين العالميين الكبار مثل التشيكي ميلان كونديرا والليبي إبراهيم الكوني.
أخيرا، لا بد من الإشارة إلى ان الرواية متوفرة في المكتبات التجارية في انواكشوط. وقد اقتنيتها شخصيا لدى مكتبة جسور قبالة السفارة التونسية..