انتهيت للتو من قراءة رواية "الشنقيطي" لأستاذي المبجل المفكر والفيلسوف والكاتب المبدع البرفسور عبد الله السيد وأباه. وقد استمتعت كثيرا بقراءة هذه السردية الرائعة. ولفرط إعجابي بالرواية وبكاتبها، سأجازف بإبداء بعض الإنطباعات الأولبة حولها، رغم أن كل ما يمكن أن أقوله عنها مجروح جملة وتفصيلا بالنظر لبعد الشقة بين موقع المعلق كتلميذ و منزلة الكاتب كأستاذه. حقا "إنّ الكلام على الكلام صعب" كما يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة".
تتميز رواية "الشنقيطي" بالكثير من السمات البنيوية والفنية التي تجعل منها تحفة أدبية جاءت مكتملة النضج حقا، رغم أنها باكورة تجربة روائية فتية، ما فتئ يتأكد علو كعب كاتبها بعد صدور روايته الثانية "الترجمان" الذي أعلن عنه مؤخرا.
إنها رواية باذخة، كتبت بلغة معبرة وواضحة. وبأسلوب سلس اعتمد طريقة السهل الممتنع من خلال جمل طويلة شيقة. ولقد أبدع الروائي السيد ولد أباه في هذه الرواية ، معجما دلاليا فريدا وسخيا، للتعبير -بشكل واقعي ومقنع - عن المنحنى الزمكاني للسردية وهو المنكب البرزخي و الفضاء الصحراوي-المغاربي في حقبة ما بين النصف الثاني من القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادي.
"الشنقيطي" أخذت موقعها في سجل الروايات العالمة التي تعتمد في محاور البنية السردية على وقائع ثابتة وأحداث تاريخية لكن مع حرية الروائي في التصرف فنيا وأدبيا وسرديا في تلك الأحداث والوقائع بما يخدم الثيمة والطرح والمقاربة الإبداعية. ولعل عمق وتفرد المغامرة المعرفية التي اختارها الكاتب ثيمة مركزية لسرديته الجميلة هو أنه جعل أحداثها تروى على لسان ابن رازِكَه (1650 - 1731 م) أو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الطالب العلوي، وهو شخصية شنقيطية رائدة ونادرة جمعت في وقت واحد بين الشعر والعلم والقضاء والتصوف والسياسة.
وعلى هذا النحو من النضج على سلم الإبداع، أحرق كاتب رواية "الشنقيطي" المراحل في إنضاجها وإخراجها بشكل سلس وجذاب. إنها رواية تستحضر أهم المراحل والأحداث المؤثرة في سيرة حياة ابن رازِكَه، كما يرويها هو نفسه، وهو ما يجعل منها سجلا للمذكرات الأدبية والسياسية لتلك الشخصية المتميزة و العجيبة. وإن كان ابن رازِكَه لطالما اعتبر الشاعر الشنقيطي الأقدم، فهو في هذه الرواية يظهر كرجل فكر سياسي من الطراز الرفيع.
ورغم شح المصادر والمراجع حول سيرة بطل الرواية، وغموض شخصيته كما عبر عن ذلك د. محمد المختار ولد أباه، أطال الله بقاءه، "من أننا لا نعرف عن هذا الشاعر إلا قليلا من حوادث متفرقة يحيط بها الغموض وتكتنفها الأساطير"، فإن ذلك لم يثن كاتب رواية "الشنقيطي" ولم يفل من عزيمته لاستحضار جميع أبعاد هذه الشخصية الشنقيطية الأصيلة. فقد حضرت فيها نماذج جميلة من شعر ومشاعرات ابن رازِكَه، كما عرج الكاتب على جوانب من اهتماماته الصوفية والفلسفية والرياضية. ولكن لعل ما اجتهد الكاتب أكثر في إبرازه وفي جعله مدارا للنقاش والمقارنة هو ما يمكن تسميته ب "بالبعد السياسي" إن على المستوى التنظير أو على مستوى الممارسة عند ابن رازِكَه..
وقد نجح الكاتب في هذا المسعى من حيث إقناع القارئ لدرجة أنه أعاد فتح مجال واسع للتساؤل حول انزياح الصورة النمطية لابن رازِكَه الشاعر، لصالح ابن رازِكَه رجل السياسة، الذي كان يبسط حضوره ونفوذه إن في تقديم الإستشارة السياسية للأمراء والملوك، أو بناء التحالفات، أو حشد النصرة والتأييد للسلاطين.
ولعل الكاتب لم يبالغ في تضخيم البعد السياسي عند ابن رازِكَه -كما قد يخيل لأول وهلة - فهو ظل دائما بعدا أصيلا عنده، وقد قال عنه صاحب كتاب الوسيط: "ثم طمحت نفسه إلى الأعتاب السلطانية التي كان ينال بها إكراما يقصر عما يُذكر من إكرام الرشيد وأضرابه لمن توجّهوا إليه". بل إن الرواية تستحضر مرة رحب فيها السلطان المغربي محمد العالم بصديقه ابن رازكه، وقال فيه شعرا. ولعلنا نجد أكثر من ذلك مما يعزز أهمية البعد السياسي لدى ابن رازِكَه، في كتاب "فقه البادية" للشيخ محمد المامي، الذي قال بأن ابن رازكه ربما كان "يعتبر نفسه واليا من قبل سلطان المغرب".
ولعل أكثر ما أعجبني في رواية "الشنقيطي" هو نهايتها التي غلبت عليها تساؤلات وتداعيات الفيلسوف- الكاتب، خاصة عندما يعود البطل إلى مسقط رأسه بعد طول الغياب والترحال والقول والفعل السياسي، حائرا، محبطا بفعل ما أصاب البلاد والمنطقة من ترد واندثار؛ متسائلا : "أين المفرّ وقد أقفرت حواضر العلم والدعوة، وتحلّلت إمارات الحكم واشتد خطر الغزاة والبغاة؟..."
ثم يختم الكاتب روايته على لسان الراوي بنبرة متشائمة قائلا: " لم يبق إلا الإحتماء بشنقيط، وهل فيها ملجأ وحماية، أم هي اليوم منفى المعتزل بعد أن قلّ السكان وتضاءلت التجارة وانقطعت السبل؟..."
عمل أدبي رائع يستحق القراءة.. تحية إجلال وتقدير لأستاذي المبجل!