رجل عالم عامل.. والرجولة والعلم والعمل صفات قلما اجتمعت لسواه، متواضع دون ذلة، حاد الطبع دون إيذاء، صريح دون جرح، قوي في الحق وبه على الباطل وجنده، تعاقبت عليه الأحكام التي تداولت البلاد منذ الاستعمار حتى اليوم فما داهن ولا داجى ولا نافق ولا حقد حتى قبض صباح الخميس ودفن بأبيض الماء إلى جنب والده في مدفن مشهور لما ضمه من الأفاضل.. يأبى الجواب فما يراجَع هيبة ** والسائلون نواكس الأذقان أدب الوقار وعز سلطان الهدى ** فهْو المطاع وليس ذا سلطان!! ولد الإمام الراحل سنة 1916 (على أرجح الأقوال) لأبوين من دوحة آل البوصيري المشهورة بالفضل والدين والخلق؛ فوالده محمدُّ بن حبيب بن أحمدُّ بن البوصيري، وجده لأمه الشيخ محمدُّ بن حبيب الرحمن بن البوصيري الآنف الذكر. تحصيله العلمي توفي والد الإمام الفقيد قبيل ولادته فسمي باسمه كما يقتضي العرف، ولقب بداه. وحين بلغ سن التعلم تلقى مبادئ العلوم القرآنية والفقهية واللغوية في محيطه الاجتماعي، وفي عامه السابع أتقن قراءة الإمام نافع (بروايتي قالون وورش) على القارئ سيد الفالِّ (بلام مغلظة) بن محمودن الذي يصفه في إجازاته للطلاب بأنه "داني زمانه وجعبري أوانه الشيخ سيد الفالِّ بن محمودن، المجلسي نجارا البنعمري خؤولة ودارا" ثم أحرز قراء الإمام ابن كثير (بروايتي البزي وقنبل) وتلقى أغلب تعليمه المحظري على الشيخ أحمدُ ابن احمذيه (ت 1387هـ/ 1967م) ثم تلقى معارف مختلفة بدرجات متفاوتة على نخبة من علماء وقته أذكر منهم: - محمد ابن المحبوبي. - محمد عبد الله ابن البشير (ت 1953م). - محمد سالم بن المختاربن ألما (ت 1963م). - المختار بن ابلول (ت 1974م). - محمد بن أبي مدين (ت 1975م). - محمد عالي بن عبد الودود (ت 1981). خالط الفقيد هؤلاء على مستوى شخصي ثم استفاد من تراث آخرين أذكر منهم الشيخ محمد آسكر بن سيديا بن محم الذي توفي في صدر القرن الميلادي العشرين؛ فأثناء وجود الإمام مدرسا بأرجاء كرمسين انتبه إلى تلميذه محمد عبد الله بن المختار بن محمد آسكر (ت 1993م) وباحثه في مسائل من فروع الفقه مباحثة آلت إلى تحول الإمام إلى التأصيل؛ وهو توجه استمر عليه حتى لقي وجه ربه جل وعلا. من خلال محمد عبد الله انتبه بداه إلى مكتبة الشيخ محمد آسكر واستعار منها مجلدات كثيرة ظل بعضها لديه حتى وفاته ما لم يكن أعاده بعد مرضه. محظرته تولى الإمام الراحل التدريس أولا في محيطه الأقرب في أحياء بدوية متنقلة في أرجاء مقاطعة أبي تلميت وقد تتوطن بـ"علب آدرس" و"انتوفكت" وغيرهما، ثم انتقل – ولما يزل شابا- للتدريس في أحياء بدوية بنواحي كرمسين الحالية وظل هناك إلى انتقاله للعاصمة عشية الاستقلال. بمجرد وصوله العاصمة انتبه المتعلمون والمستفتون والمستفيدون إليه فأقبلوا يغترفون من بحره الزاخر.. فوجد نفسه – تلقائيا- شيخ لمحظرة ربما لم يسع إلى تأسيسها أصلا. ظلت محظرة الإمام الفقيد موردا للعلم الشرعي واللغوي حقبا متواصلة توسعت خلالها وانقسمت إلى فروع بعدد الأماكن التي للشيخ فيها وجود؛ لذا أصبح يديرها اعتمادا على شيوخ مساعدين انتقاهم من أجاويد طلابه. ومن الغريب أنه في مجالسه العلمية يقول ما لو قاله غيره لكان جارحا فلا يعدو مزحة ترطب الجو وتكسر الروتين! أذكر أن أحد الطلاب استوضح جزئية من درس له في التفسير فأوضحه الشيخ فأعاد الطالب استشكاله مرة أو مرتين وفي كل مرة يعيد الشيخ الإيضاح بشكل يغاير ما سبق، فقال الطالب: "هذ بعد آن ما افهمته!" فما كان من الفقيد إلا أن قال له: "بويَ مانك لاهي تفهمه {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} أذوك انت مانك منهم!" فضحكنا جميعا ونظرت فإذا بالطالب المذكور يضحك كسائرنا. إمامته قبيل الاستقلال انتقل الفقيد إلى انواكشوط كما سلف، فارتضته جماعة لكصر – أيام كانت العاصمة مقتصرة عليه- إماما للجامع القديم هناك (المجاور للسوق). وبعد إنشاء مساكن للموظفين على مقربة من مكاتب الدولة المرتقبة نشأ قسم ثان من العاصمة (كبتال) فشُيِّد الجامع العتيق (جامع ابن عباس) في منطقة ملائمة لسكان قسمي المدينة واختير الفقيد - رسميا- لإمامة الجمعة به على مدى عشرين عاما حتى أنشئ الجامع الكبير بقلب العاصمة (بتمويل سعودي) فانتقل الإمام إليه وظل الإمام الرسمي به وإن كانت إمامته الفعلية بالجامع القديم (لكصر) أكثر بحكم السكن؛ ثم شيد جامعا رابعا بجوار منزله بـ"المشروع" (تيارت) لذا كان حضور نوابه في محاريب الجوامع الأخرى أكثر من حضوره البدني. ظل بداه –رحمه الله- الإمام الرسمي بالجامع الكبير حتى وفاته؛ رغم انقطاعه عن الإمامة منذ حوالي عشر سنوات نتيجة ظروفه الصحية وبحكم تقدمه في السن. علمه واستقامته اشتهر بداه - رحمه الله- بالنبوغ في علوم القرآن، وبالفهم الصحيح للشرع الحنيف، وبالاعتماد على ما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتلقى في ذلك أذى جما وصبر في الله وصمد على الحق حتى انجلى الغبار وتميز الغث من السمين. وبحوزتي رسالة نادرة – أقدمها مثالا لذلك- وجهها الراحل في أواخر الخمسينيات (أو صدر الستينيات) إلى الإمام محمد بن أبي مدين رحمه الله؛ وكان في بداية توجهه إلى السنة النقية ونبذ التعصب الأعمى؛ وهي رسالة ذات قيمة نوعية لكونـها تؤرخ لمرحلة مفصلية من تاريخ الإمام بداه رحمه الله، وتسجل شجاعته في الاعتراف بالخطأ إذا تبين له، وحرصه على الحق أنى كان ومع من كان. في الرسالة يطلب بداه من محمد الإعانة على ما هو بصدده –وقتها- من "الاشتغال بكتاب الله وسنة نبيه دون الاشتغال بالفروع التي لم يقم عليها دليل من كتاب ولا سنة" ويذكره بلقاء جمعهما من قبل كان له الأثر البالغ في نفس بداه على ما يبدو؛ حيث استنهضه ابن أبي مدين لنصر الكتاب والسنة؛ فسأله بداه عما إذا كان محمد عالي بن عبد الودود يوافقه على هذا الطرح؛ وهو سؤال وصفه ابن البوصيري لاحقا في الرسالة المذكورة بأنه "لا يصدر عن عاقل" فرد ابن أبي مدين بأن ما صح عن النبي لا يزيده عنده عمل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويصف بداه هذا الجواب بأنه "من الأجوبة المسكتة". ويضيف بداه في رسالته: "فالحاصل أني لما نظرت الكتب وتفرغت لها علمت أن اتباع السنة في قطرنا لم يتحل به على الحقيقة إلا بابَ ابن الشيخ سيديا ومن سار بسيره فصرت أطلب منك أن تعينني بتأليفه المسمى بإرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين" مضيفا: "وإن كان عندك تأليف في الناسخ والمنسوخ فلا بأس إن أرسلته إلي أنقل منه نسخة وأرجعه لك وأخبرني بأجمع كتب الحنفية والحنبلية لفروعهم لأسأل عنه وأشتريه؛ فجزاك الله عن السنة خيرا". وفي ختام الرسالة يقول الفقيد: "لقد ضيعنا محض التقليد والتعصب له حتى تركنا كثيرا من السنة؛ لكن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، فلقد صرت بعدك أقبض وأرفع وأفعل كل ما ظهر لي أنه سنة على رغم أنف كل من ينتمي للعلم، وألفت في ذلك تأليفين في ذلك الميدان؛ أحدهما في الرد على من يزعم أن الأرجح التزام مذهب معين.. فأعِنّي على السنة بإعارة الكتب وبتسمية ما هو جيد منها في هذا المعنى..". مؤلفاته 1. تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر. 2. الدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد. 3. تنبيه الحيارى وتذكرة المهرة في الجمع بين أحاديث الفرار والنهي و"لا عدوى ولا طيرة". 4. تنبيه الجماعة على أحاديث أشراط الساعة. 5. الكتائب الشرعية في صد هجوم القوانين الوضعية. 6. أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك. 7. القول المفيد في ذم قادح الاتباع ومادح التقليد. 8. القول المبيَّن في الرد على من قال بالتزام مذهب معين. 9. الحجر الأساس لمن أراد شرعة خير الناس. 10. الانتصار للسنة (أرجوزة). 11. القول السديد في الرد على أهل التقليد. 12. حاشية على مختصر خليل (فقه مالكي). 13. منح الجليل فيما عارض المختصر بالدليل. 14. رسالة في نصرة القبض في الصلاة. 15. تحفة الكرام في بيان الحلال والحرام. 16. تنبيه الأنام على مشروعية القراءة حال جهر الإمام. 17. الحجج المتكاثرة في صحة السجود في الطائرة (موضوع خلاف بينه وبين الشيخ نافع بن حبيب رحمهما الله). 18. رسالة في الأوعية الزكوية المجمع عليها. 19. نيل السول في مبادئ الأصول. 20. مبادئ الرسوخ في معرفة الناسخ والمنسوخ. 21. تذكرة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ. 22. تحفة الولدان في سيرة خير بني عدنان. 23. إتحاف ذوي النجابة فيما شجر بين الصحابة. 24. إسعاف الظرفاء في تاريخ الخلفاء. 25. الهدية المرضية في الفرق بين الغزوة والبعث والسرية. 26. تعجيل المنفعة في جواز نقل الجمعة. 27. رسالة في التصوف. 28. رسالة في حكم الاشتغال بعلم الكلام. 29. فوائد القسطلاني. 30. كناش فقهي. 31. رسالة في الرد على القائلين بالأذان الثالث في الجمعة. 32. رسالة في نكاح السر. .. إلى غير ذلك. وباستثناء "تنبيه الخلف الحاضر" فكلها غير منشورة للأسف، وإن كان قد سبق نشر بعضها (كأسنى المسالك) وبعضها مرقون بالآلة الكاتبة. رحم الله بداه رحمة واسعة، وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين.. وإنا لله وإنا إليه راجعون. ________________ * "السفير" العدد 867 (10 /5/ 2009).
نقلا عن صفحة الدكتور محمد سالم ولد جدو