محمد وصيدو موعد في المهجر ذات جلسة حدّث صديق خالي قال: في نهاية السبعينيات منحت إلى كندا.

مونتريال الساحرة مدينة تأسر اللُّب بموقعها الفريد، ، حيث تنام في أحضان نهر سان لوران.
مونتريال المدينة المليئة بالحركة والضوء، بمبانيها الشاهقة المقامة على سلسلة مرتفعة، تنحدر غرباً من الضفاف التابعة لنهر سان لوران، متّجهةً إلى جبل مونت رويال، الذي أخذت منه المدينة اسمها، فيها يلتقى النهران، نهر أوتاوا، ونهر سان لوران.
رغم سحرها الأخاذ وضوضائها الغامرة، كانت مونتريال قاسية عليّ، يقول محمد، لم أعرف المدن الهادرة التي لاتنام، ليلها كنهارها، لم ترق لي أنا القادم وحيدا من مدائن الملح والريح، أكلتني الوحدة واستهلكني الروتين القاتل دائرا بين المدرّج والمكتبة والمطعم والغرفة.
كنت الموريتاني الوحيد في الجامعة، لم يكن الاتصال متوفرا وحسب المرء من الأخبار أن تأتيه عبر البريد البطيء رسالة كل ثلاثة أو أربعة أشهر تفيده بما طرأ، ويكون فرحه عارما إن جاءه شريط مسجّل من الأهل.
كانت الأشرطة التي جلبها محمد معه من المنتبذ القصي، ترياقة كلما استبدت به الوحدة والحنين، فكان يراوح بين النعمة وسيداتي وول عوّه وأشرطة تعلم أژوان بما تحمله من قصص.
شاب موريتاني من البولار يسمى"صيدو" حط في جامعة محمد، كان حاله كحالي وحيدا من الخلان.
"صيدو" وفي ليلة من ليالي الأرق كان يتجول بين غرف الطلاب في السكن الجامعي، وخُيّل إليه أنه يسمع موسيقي موريتانية !!
اقترب من الغرفة وأصاخ كانت النعمة بنت اشويخ تشدو..
مكث برهة يستمع.. كذب أذنيه واستعاذ بالله من شر الجان والشياطين وعاد لغرفته.
في الليلة الثانية مر في ذات التوقيت واسترق السمع كان ول عوّه يشدو فخفق قلبه.. ياللهو ما أشد رهبة هؤلاء الشياطين الذين يمتلكون القدرة على تقليد صياح البظان في بقعة بينها وبين أرض البظان بحر الظلمات المتلاطم، قالها في نفسه وهو يفرك أذنيه ويقرأ آية الكرسي عائدا إلى غرفته.
في الليلة الثالثة استجمع قواه وهو يقول إن ماسمعه كان حقيقة وأنه لابد أن يتشجع ويعرف الحقيقة.
مر في ذات الوقت كان الصوت خافتا لكنه التصق بالباب أكثر، كان سيداتي يترنم بصوته الجميل..
قال صيدو هذه موسيقى موريتانية أصيلة وهذا الصوت أعرفه في الراديو في ليالي السمر الجميلة في ترف الأزمنة الهادئة في الوطن.
روّى قليلا ثم أحجم برهة، ثم لم يتمالك أن طرق الباب..
سكت صوت المسجل داخل الغرفة.
لقد ظن محمد أن الطارق أحد جيرانه أزعجه الصوت فأسكت المسجل.
بعد دقائق طرق صيدو الباب ثانية.
لم يتحرك محمد فهو لا ينتظر طارقا في هذا الوقت من الليل، ولا علاقة له بأحد من طلاب الجامعة تسمح له أن يدق عليه الباب في هذه الساعة !
بعد برهة طرق صيدو الباب ثالثة وصرخ: تَبّاتٌو فَتَحْ گصّرْ عمرك..
ما إن سمع محمد تلك العبارة حتى وثب قلبه وطار نحو الباب ليفتحه..
فتح الباب محتضنا صيدو كأنه يعانق أباه وظلا ملتحمين والدموع سوافح..
يقول محمد: كان صيدو هدية القدر فقد أضاء وجوده ليالي مونتريال وسكب الدفء على صقيع أيامها.
ومن طريف أمر صيدو أن لسانه انطلق بالحسانية وقد أقسم لي أنه لم يكن يعرف أنه يعرفها، وكأنّ حاجزا وهميا كان يحول بينه وبينها تلاشى في ثوان، وكأن عقله كان يستبطنها يشمها ولا يفركها.
يقول محمد: اكتشفت أنا أيضا أنني أعرف كلمات من البولارية وأنها ليست محرمة على طاعم يطعمها، كان حديثي مع صيدو يراوح بين الحسانية والبولارية.
كان شاينا الأخضر الذي نعده أمة وسطا ليس بالغامق كشاي قوم صيدو وليس بالخفيف كشاي قومي.
أصبح صيدو "موسًا" على التيشطار، وأصبت أنا آكل "گورَه"
في أشرطة الأهل المسجلة كان أهلي يبدأون بالسلام على صيدو، وكانت الأشرطة القادمة من مقاطعة مقامه بولاية گورگل حيث أهل صيدو، يسلمون عليّ بالحسانية وكانت أمه أبيظن من تيدنيت ولد ابّيبُو.
كانت تأتينا الهدايا من الأهل، ومرة بعثت لي أم صيدو قبعة من السعف مدورة لتقينى حر الشمس، وغاب عنها أننا في بلد تموت من البرد حيتانه.
جمعتني مع صيدو علاقة أخوة عز نظيرها يقول محمد، في العطلة كان يذهب معي إلى لخيام، وكنت أذهب معه إلى مقامه، واكتشفت أنه قلّ أحد من أهله الطيبين لا يعرف الحسانية.
حمّالو الحطب ممن يسمون مجازا بالساسة، يستغلون بعض الاختلافات التي هي مصدر غِنًى، لتحويلها إلى خلافات لإيقاد نار الطائفية والفتة.
آخية الإسلام وآصرة الوطن أقوى من نوازعنا، نحن من خلق وهم الآخر والغير نحن أمة واحدة.
في الغربة اكتشف محمد أنه صيدو، واكتشف صيدو أن محمد ليس الآخر أو الغير بل هو صيدو ذاته.
تلك كانت خلاصة علاقة محمد وصيدو.
حين التحم سليمان جالو مع شبّو متشبثا به وارتقيا إلى الأعلى تذكرت قصة محمد وصيدو
كامل الود