محمد بن بدي بن الدين العلوي الآبَّيْري (1352 – 1429 هـ): عالم مدرّس، ومؤلف متفنن، وشاعر مفلق، وهو أحد القضاة البارزين ومشايخ التربية المقدَّمين، ورجال الحل والعقد، ومراجع التاريخ والتوثيق في المجتمع.
أخذ عن والده وجده وأعمامه وانتقل إلى عدد من أشهر محاظر منطقته، منها محظرة ابن عمه العلامة محمدو بن المختار السالم ومحظرة العلامة أحمدو بن محمذفال الحسني، وفيهما تضلع من مختلف العلوم والفنون، ليتولى بعد ذلك تدريس العلوم المحظرية على مدى عقود في مناطق إقامته وعمله، وكان لعلو همته ووضوح منهجه وحسن تربيته كبيـر الأثر في مجتمعه ومحيطه.
عمل في سلك القضاء طيلة ربع قرن واشتهر فيه بالعدل والقوة في الحق، وبأحكامه القاطعة للنزاعات التي لفتت الأنظار ونالت إعجاب أهل الشأن والاختصاص.
ترك القاضي محمد – رحمه الله تعالى – عشرات المؤلفات والفتاوى والمنظومات في الفقه والأصول والقواعد الفقهية وعلوم القرآن والتصوف والنحو والآداب والأنساب، وغير ذلك، إلى جانب ديوان شعر متميز تناول مختلف الأغراض من مديح نبوي وتأمل وتضرع وحكمة وتوجيه وإرشاد وتأصيل علمي وتقاريظ ومدح لمشائخ العلم والتصوف ورثاء للأكابر، ولم تغب عنه قضايا الوطن والأمة. وقد أُنجزت عن شخصيته وديوان شعره وعدد من آثاره سبع دراسات جامعية حتى الآن بمرحلتـي المتريز والماستر في عدد من المؤسسات الجامعية الوطنية.
كانت للقاضي محمد علاقات ومراسلات علمية وقضائية مع عدد من المشائخ والعلماء الأعلام المعاصرين له، تعكس ما كان يتمتع به من مكانة رفيعة بينهم. وتتصدر ذلك مكاتباته مع الشيخ محمد المشري بن الحاج ومراسلاته مع العلماء الأجلاء: الإمام بداه بن البوصيري والعلامة محمد سالم بن عدود والشيخ محمدو بن أنحوي والعلامة اباه بن عبد الله والقاضي باباه بن فتى والقاضي محمد عبدالرحمن بن السالك و الشيخ الحاج بن المشري والشيخ إسحاق بن محمد بن الشيخ سيديا، والقاضي محمدن بن بارك الله، والعلامة المفتي بداه بن بو، والقاضي ابين بن ببانه، والقاضي بنعمر بن فتى، والقاضي محمد يحظيه بن المختار الحسن، والقاضي محمدو بن مود، والقاضي محمد الأمين بن أحمد الأفرم، والقاضي بَيَّه بن السالك، والسيد عبد الرحمن بن محمد بن الشيخ سيديا.
ترجم له عدد من أصحاب الموسوعات والمعاجم، مثل موسوعة “حياة مويتانيا” للمختار بن حامدن، و”معجم البابطين لشعراء العربية المعاصرين” وموسوعة “المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء”، للدكتور يحيى بن البـراء، وكتاب “أعلام في ظل صاحب الفيضة” للشيخ محمد بن الشيخ عبد الله. ووصف المؤرخ الأديب المختار بن حامد الديماني القاضي محمد في شبابه بأنه “نسخة من أبيه ثقافة وأدبا”، بعد أن وصف والده الشيخ بدي بن الدين بأنه “أحد رجال الوقت علما وأدبا”، ووصفه الشيخ محمد المشري ابن الحاج العلوي بـ “العالم العامل والولي الكامل “، وذلك بعد أن أجازه إجازة مطلقة.
وقد تنوعت تراجم الشيخ القاضي الشاعر محمد بن بدي بن الدين رحمه الله تعالى بتنوع زوايا شخصيته وبتعدد المجالات التي أوردها الدارسون والمترجِمون في سياقها، وبطبيعة الآثار التي تم تناولها بالدرس والتحقيق من آثاره العلمية والأدبية حتى الآن، كما تفاوتت تلك التراجم بسطا واختصارا وطيا ونشرا بحسب تخصص الباحثين والمؤلفين الذين ترجموا له والكتب والموسوعات التي أوردت تلك التراجم، ومدى اطلاع أولئك المترجمين على مكنونات البيئة العلمية والثقافية والتراثية للمترجَم له، ومن أوفى تلك التراجم تلك التي كتبها أبناؤه بعيد وفاته رضي الله عنه، واعتمدها عدد من الباحثين والدارسين لآثاره العلمية والأدبية.
واستضافت التلفزة الموريتانية مؤخرا الأستاذ الشاعر لمرابط بن دياه للحديث عن جوانب من شخصية القاضي محمد وحياته وشعره في برنامج “حكاية شاعر” الذي يقدمه الإعلامي الأديب محمد فال ولد سيدنا على القناة الأولى، كما خصصت حيزا لعرض مقتطفات من سيرته وآثاره، من خلال تقرير بثته في نشرات قناتها الثقافية.
ووردت ترجمة الشيخ القاضي محمد في صيغة خلاصات منتقاة بطريقة أكاديمية في سياق أطروحة “ماستر” أعدها الباحث الراحل، سليل دوحة الشرف، الأستاذ الأديب سيدي محمد بن عبد الله العتيق ـ رحمه الله تعالى ـ في جامعة شنقيط العصرية سنة 2012 وتناول فيها بالدراسة والتحقيق أحد الآثار العلمية للشيخ القاضي محمد، وكانت بعنوان: “أسباب ثبوت النسب للقاضي محمد بن محمد الأمين العلوي الآبيري”.
أفرد الباحث سيدي محمد المبحث الأول من أطروحته للترجمة، ورتبه على النحو التالي (المبحث الأول: ترجمة المؤلف، و فيـها:- نبذة عن سلف المؤلف. – مجموعة مطالب: – الأول: المولد والنشأة. – الثاني: الدراسة والأشياخ علما وتصوفا. – الثالث: الجهود العلمية تدريسا وتأليفا وممارسة.- الرابع: وفاته رضي الله عنه. خاتمة).
يقول الأستاذ سيدي محمد، في ترجمته للشيخ القاضي محمد بن بدي إن “حياة الرجل كلها معالم تستحق الوقوف و الدرس والإشادة و الإشاعة، تستحق الوقوف والاقتباس والاقتداء والاتباع والانتفاع بنهجه في تعلمه وتعليمه وتصوفه وأدبه وقضائه وذكائه وأخلاقه و إرشاده وجده وزهده ومكانته وحسن خلاله وجهوده وهجوده ويقينه وعلومه وفهومه ومعارفه وصدقه ومواقفه …”.
ويلخص الباحث الأستاذ سيدي محمد جوانب شخصية الشيخ القاضي محمد في ختام رحلته مع أخباره وآثاره، فيقول:
“إلى هنا وصلت مع الشيخ القاضي العالم المعلم الفقيه الشاعر الصوفي المربي المصلح الدال على الله بحاله ومقاله المشتغل بربه في رحلة عجيبة متعددة المناحي والمقاصد والاتجاهات قطعها صاحبها متعلما عالما معلما مؤلفا مفتيا قاضيا مريدا مرادا مربيا مصلحا في سبع وسبعين سنة و حاولت صحبته مع الفارق الكبير والبون الشاسع في سنة أو تزيد، مثالنا في ذلك مثال بحري سخر حياته للبحر سبر أعماقه و صحب أمواجه واستخرج لآلئه و متفرج عليه من بعد يرى نشاطه ويدرك ـ أو لا يدرك ـ قيمة عمله إلا أنه مقر بالعجز التام عن مسايرته…
إلا أنني و إن كنت قاصرا فقد ظفرت من هذه الصحبة بخير كثير..، فقد ختم الرجل رحلته ومسيرته وفتح أمامي وأمام غيري ممن سيتعامل مع أثر من آثاره آفاقا كبيرة…
صحبته صحبة شيقة في بطون كتب التفسير والحديث والفقه ورأيت في معاملته مع النقول كيف يأخذها أخذ العالم الماهر ويصيغها صياغة القادر حتى يمتلكها بذلك ثم يحيلها إلى أصحابها إحالة الخاشي الورع…
وقد صحبته في ديوانه: في ثقافته الواسعة وقدرته على توظيف المعاني وتقريب بعيدها بأعذب الألفاظ و الرائق من التعابير….
ورأيت في ديوانه من دماثة أخلاقه وقويم تربيته وحرصه على الفضيلة ومحاربة الرذيلة والاهتمام بالنشء والإصلاح في الفرد والمجتمع ما يصلح الفاسد و يرشد الحائر ويقوي الضعيف ويؤيد القوي…
… وإن في الوقفات التي وقفناها، والعناوين التي سردناها، والأدلة التي جلبناها من علومه، ما دوَّن منها وما بث في قلوب الرجال، إلى مكانته في النفوس باختلافها، و بمختلف أسبابها علما وعدلا و مخالقة حسنة، و اشتغاله بالله قلبا وقالبا وتوفيقا في نهجه و سلوكه وحياته، دليلا على عظمة هذا الرجل، وقد غادرنا من ذلك متردما، فما العوامل التي أثرت في الرجل وأبرزته في هذه الصورة ؟..الإجابة على هذا السؤال تتطلب زادا معرفيا، و وقتا طويلا وتأنيا، ومع ذلك سنحاول فليس يلام المرء في مبلغ الجهد فإن لم نفز بالأجرين فعسى أن لا نحرم أجر المخطئ”.