فرضت الزراعة نفسها منذ القدم كوسيلة للعيش الآمن على وجه البسيطة ومصدر من مصادر الاكتفاء الذاتي الذي يترجم حقيقة الاستقلال التام، وكدعامة من دعامات التنمية الشاملة لأي كيان يسعى لضمان استمراريته ورفاهية شعبه.
ولا يخفى على أحد ما بلغته الزراعة، اليوم، من أهمية قصوى تخطت مكانة الصناعات التكنولوجية المتطورة والأسلحة النووية، بل إنها تتحكم في كل هذه الصناعات إما من خلال الدخول في التركيبة الأولية للمواد الخام أو من خلال تبوئها مكانة الدرع الآمن الذي لا غنى عنه في مواجهة الأخطار المحدقة، فهي صمام الأمان والعمود الفقري للفرد والمجتمع والدولة.
وقد أثبت لنا التاريخ القريب والحاضر المعاش أن لامناص من التوجه إلى الزراعة وولوج القطاع الأكثر أهمية في وقتنا الحاضر، ولا أدل على ذلك من ما عانيناه في موريتانيا من ويلات انقطاع تزويد البلاد بالمنتوجات الزراعية التي نعتمد عليها اعتمادا كليا في تحضير موائدنا اليومية و التي قد يحجم مصدروها في أي لحظة عن تزويدنا بها؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أن حياتنا كلها متوقفة على تلك الإمدادات التي ندفع مقابلها الغالي والنفيس راضخين مقنعي الرؤوس.
كما أن وباء كورونا ـ الذي مازلنا نعيش تحت وطأته - قد أثبت بشكل قاطع أن النظـام الاقتصادي العالمي هش جدا وغير متوازن وأن الدول غير الزراعية ـ وهي غالبا دول العالم الثالث - كادت أن تهلك لولا حكمة ربانية لا دخل للبشرية فيها، وذلك في أول اختبار حقيقي للعالم أجمع.
وعندما توقفت المبادلات التجارية الدولية وأغلقت المنافذ الجوية و البرية والبحرية ضاقت الأرض بما رحبت و بلغت القلوب الحناجر، وكأن ساعة الحساب قد دقت، ولن يحصد أحد إلا ما زرع، فأصيب الجميع بندم شديد، وخوف رهيب، وهلع لم يسبق له مثيل، وكأن لسان حالهم يقول: إن خرجت من هذه المحنة سالما فلن أكرر غلطتي ثانية، وهو ما أدركته حكومتنا مبكرا فبادرت إلـى جـعـل الزراعـة أولوية قصوى وأطلقت مشـاريع تمويل كثيـرة واهتمـت بالمزارعين ودعتهم إلى بذل قصارى جهدهم لانتشال البلاد والعباد من براثين إهمال قطاع أصبح ركيزة من أهم ركائز قيام الدولة الحديثة.
أما الاختبار الثاني فقد بدأت شرارته مع الأزمة الروسية الأوكرانية الأخيرة وكان ذلك خير دليل وأصدق برهان على الأهمية التي تكتسيها الزراعة، فقد هب العالم هبة رجل واحد ودق ناقوس الخطر منذرا بمجاعة عالمية؛ جراء عدم تصدير الدولتين لمادة القمح وحدها نتيجة للحرب الدائرة بينهما، فارتفعت الأسعار واضطرب مسار المؤشرات الاقتصادية العالمية وأخذت كل أمة بكتابها وكأن الإرادة الإلهية شاءت أن تفيق أو تستفيق الشعوب المطحونة من سباتها العميق وتعيد النظر في أولوياتها والأسس والدعامات التي يجب أن تبني وتشيد عليها نهضتها واستقلالها.
أما بالنسبة لوضعيتنا الخاصة فإنه من الممكن ضرب عصفورين بحجر واحد من خلال السعي لبلوغ اكتفاء ذاتي يضمن الاستقرار الاقتصادي ويقوي القدرة الشرائية للمواطن وكذا المساهمة في تثبيت المواطنين في أماكنهم الأصلية، وهو موضـوع طالما أرق السلطات المحلية، وشكل ضغطا ديموغرافيا على المدن الكبرى، وخاصة العاصمة انواكشوط، وهو ما أدى بدوره إلى تزايد البطالة وانتشار الجريمة المنظمة بين صفوف العاطلين والمراهقين من ضحايا التسرب المدرسي المبكر.
ولبلوغ ما نصبو إليه: (الاكتفاء الذاتي) فإنه يجب تضافر جهود الجميع من رجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني من أجل دعم وتمويل المزارعين وتنظيم أيام أو شهور للتحسيس والتنبيه على أهمية رجوع المزارعين إلى حقولهم واستخراج ما تجود به أراضينا الزراعية الخصبة المعطاة التي لا ينقصها سوى الاهتمام على المستويين: الرسمي، والشعبي.