لعلّ المُفكِّر الجزائريّ مالك بن نبي (1905 ــ 1973) أحد القلّة الأبرز من أعلام الفكر العربيّ والإسلاميّ في القرن الماضي، ممَّن بلغوا شأواً كبيراً في استعادة بناء الفكر الإسلاميّ، وبالتالي العمل على بناء الإنسان المُسلِم وعالَمه الذي يعيش فيه... هذا العالَم الذي شكا ويشكو من حالةِ نكوصٍ رافقته منذ خروج العثمانيّين وانتهاء الحرب العظمى، ويكاد يُصبح سمةً ثابتة فيه.
اعتُبر بن نبي بحقّ أحد أبرز رُوّاد النهضة الفكريّة الإسلاميّة في القرن العشرين. نَظَرَ في موضوع الحضارة بجدّيّة ووَضَعَ مَنهجاً محدَّداً لبحثِ مشكلة المُسلمين عموماً وعقدة الدونيّة التي تعتور الفكر السائد عندهم، واستطاع أن يضعَ يدَه على أبرز وأهمّ القضايا التي تُقعد العالَم المتخلِّف عموماً وتحول دون ارتقائه وصعوده، ونَشَرَ في كلٍّ من باريس ومصر وبلده الجزائر، سلسلةً من الكُتب اختصرَ فيها نظرته وتوجُّهاته ورؤاه في هذا الصدد، فكان من أكثر المُفكّرين المُسلمين والعرب اهتماماً بإخراج قَومه من أوهام التخلُّف والدونيّة، مُنصرِفاً إلى مُعالَجةِ المرض وليس الأعراض الناجمة عنه، وكان أوّل مَن وَضَعَ منهجاً مُحدَّداً في بحث مشكلة المُسلمين على أساس من عِلم النفس والاجتماع وسُنّة التاريخ، حتّى اعتُبر الامتداد الطبيعي للعلّامة ابن خلدون.
مَن هو؟
في أسرة متواضعة في مدينة "قسنطينة" شرق الجزائر، أَبصر "مالك بن نبي" النور في الأوّل من كانون الثاني/ يناير العام 1905 وانتقلَ مع والده للعيش في مدينة "تبسة". في بواكير تفتّحه المَعرفي تابعَ مجالس الفقه للشيخ "ابن العابد" ودروس الصرف والنحو العربيّين على يد "الشيخ عبد المجيد"، وظَهرت عليه سمات الجدّيّة والرغبة في المعرفة.
في ما بعد أظهر الشاب اليافع مَيلاً واضحاً نحو الثقافة والاطّلاع وزاوَجَ بين قراءاته في الأدب الفرنسي، نثراً وشِعراً، وتبحّره في الشعر العربي القديم وشعر العصرَيْن الأموي والعبّاسي، وصولاً إلى مدارس الشعر الحديث. وهذا أَكسبه ثقافةً عالية وطَبَعَ كِتاباته بطابعها الأدبي الرقيق مع عُمق الطَّرح وجزالة المَعرفة. نفسه الثائرة دَفعته إلى الوقوف مبكّراً ضدّ الاستعمار الفرنسي لبلاده. وفي تلك الآونة جَذَبَتْهُ حركةُ "ابن باديس" الإصلاحيّة، فتأثَّر بها. كان عقله أشبه بآلةِ تسجيل، يلتقط ما يراه ويتأثّر به من المشكلات والإشكالات، ثمّ يعمل على التصدّي لذلك والاجتهاد في مُعالجته.
في العام 1925 أنهى "مالك" المرحلة الثانويّة من رحلته التعليميّة، فسافرَ إلى فرنسا وتنقّل بين مرسيليا وليون وباريس بحثاً عن عملٍ يُناسبه ليُتابع تعلّمه، من دون أن يظفر بضالّته. أُتيح له خلال هذه المرحلة أن يلمس سوء نظرة المُجتمع الفرنسي للمُسلم العربي، والشعور بالتفوّق عليه، فعاد إلى "تبسة" حيث عمل كمساعدِ كاتب في المحكمة. وهذا ما أتاح له الاحتكاك بمُختلف شرائح المُجتمع الجزائري تحت الاستعمار الفرنسي، وفهْم العديد من الظواهر الاجتماعيّة في بلده ولدى أبناء وطنه.
في فرنسا التي عاد إليها في العام 1930، كان في نيّته أن يدرس الحقوق في "معهد الدراسات الشرقيّة" ليُصبح مُحامياً. وبالفعل فقد اجتازَ امتحانَ الدخول إلى المعهد، إلّا أنّ مدير المعهد رفضه (كما روى "مالك" بنفسه لاحقاً) وأَفهمه أنّ "الانتظام في المعهد لا يخضع بالنسبة إلى مُسلمٍ جزائري، لمقياسٍ علمي فقط، وإنّما لمقياسٍ سياسيٍّ من بابٍ أولى". عندها التحقَ بمدرسة "اللّاسلكي" ليتخرَّج كمُساعدِ مهندس، فكان له أن تهيّأ لاقتحامِ عالَم الفكر السياسي متسلِّحاً بالمنهاج التقني.
تزوَّج "بن نبي" من فرنسيّة (اعتنقت الإسلام) وتفرَّغ للدراسة والتأليف في قضايا العالَم الإسلامي. كتابه الأوّل "الظاهرة القرآنيّة" أَصدره باللّغة الفرنسيّة في العام 1946، أَحدث ضجّةً واسعة في أوساط المفكّرين الغربيّين، تلاه بعد عامَين كِتاب "شروط النهضة". وقد تَرْجَمَ بنفسه هذا الكِتاب إلى العربيّة في العام 1960، فأضاف له فصلَيْن جديدَيْن طارِحاً مفهوم قابليّة الشعوب الإسلاميّة للاستعمار. أمّا كِتابه "مشكلة الأفكار في العالَم الإسلامي" فقد اعتُبر من أهمّ ما كُتب بالعربيّة في الموضوع، علماً بأنّ كُتبه لم تقلّ عن 24 كتاباً.
غادَرَ "بن نبي" فرنسا إثر أعلان الجزائر ثورتها على الاستعمار الفرنسي العام 1954 واستقرّ في القاهرة حيث حظيَ باحترامٍ كبير، وعُيِّن مستشاراً في "منظّمة التعاوُن الإسلامي". وهذا أتاح له أن يَجِدَ الوقتَ الكافي للكتابة، وكذلك لإعالة زوجته التي كان تَرَكَها في فرنسا، فنَشَرَ "فكرة الإفريقيّة الآسيويّة" العام 1956.
فِكر بن نبي
وَضَعَ "مالك بن نبي" الأساس النظري لرؤيته الفكريّة الشاملة انطلاقاً من سؤالٍ رأى أنّه يلحّ على المُسلمين منذ انفتاحهم على الغرب واطّلاعهم على حضارته، وخلاصته: ما هي أسباب تقهقُر المُسلمين؟ وما هي شروط النهضة كي يستعيدوا دَورهم وفاعليّتهم المفقودة؟
الحقيقة أنّ هذا السؤال البسيط في ظاهره، شكَّل المُنطلق في أغلب كتاباته. فهو رأى حال المُسلمين غارقة في فوضى عارمة، وانتبهَ إلى أنّهم يميلون إلى التنقيب عن الكنوز القديمة بدلاً من الابتكار والبحث عن الجديد، بمعنى أنّهم يعيشون في الماضي عِوض أن يحثّوا الخطو نحو المستقبل، فآلى على نفسه أن يُعالِج هذه العقبة. من هنا انطلقَ في سبيله إلى وضْعِ نظريّته في التغيير الاجتماعي التي عرَضَها في كِتابه "أُسس الحضارة"، ورأى أنّه بالإمكان تقسيم أيّ حضارة إلى ثلاثة عناصر أساسيّة: الإنسان والتراب (المادّة الخامّ) والوقت. واعتقدَ أنّ إطلاق النهضة في أيّ مُجتمع يتطلَّب توليفةً مُتناغِمةً بين هذه العناصر الأساسيّة الثلاثة.
في هذا كان "بن نبي" يقترب إلى حدٍّ كبير مع ما سبق أن طَرحه الشاعر والمفكّر المُسلِم البريطاني - الهندي "محمّد إقبال" حين صاغ رؤيته الحضاريّة، هو الآخر، من العناصر الثلاثة إيّاها وأَقام مفهومه للحضارة. كذلك يُمكننا المُلاحظة أنّ "بن نبي" عندما عَرَضَ فكرة القابليّة للاستعمار عند المُسلمين، بدا مُتأثِّراً بما جاء به من قَبل "ابن خلدون" في مقدّمته، حين أَشار إلى "اقتداء المغلوب بالغالب". ولقد تعرَّض في هذا للانتقاد، غير أنّ التلاقُح الفكري هو أمرٌ اعتيادي، والتأثُّر والتأثير في عالَم الفكر والمُفكّرين هو القاعدة وليس الشواذّ.
المُهمّ أنّ تلك العوالم الثلاثة كما أسماها (وهي الأشخاص والأشياء والأفكار)، اعتبرها ثلاث منظومات نظريّة تتجلّى في مُختلف الظواهر الإنسانيّة والاجتماعيّة. لكنّ واحدتها لا تتجلّى مُنفردة، وإنّما تكون مُترافقة مع الأخرى في الغالب، وقد "يُهيمن أحدُ هذه العوالِم الثلاثة على الظاهرة ويُشكِّل الأساس المركزيّ لها".
لتفسير العوالِم الثلاثة، يُمثّل "بن نبي" الأمر على الإنسان فيقول إنّه في طفولته يبدأ في التعرُّف إلى عالَم الأشياء مُبتدِئاً بأعضائه. وهذه هي مرحلة الشيء. بعد ذلك يتعرَّف إلى أمّه والأشخاص الذين يحيطون به ويراهم بشكلٍ يومي. وهذه يُسمّيها مرحلة الأشخاص. بعدها يكون الشخصُ قد نَضج أكثر فيبدأ بالتعامُل مع الأفكار المجرَّدة وتكوين رأيه الخاصّ. وتلك هي مرحلة الأفكار. ومن خلال الربط بين هذه الأشياء والأشخاص والأفكار يكوِّن مفاهيمه المستقلّة. وفي هذا التفصيل المنظَّم، يكون "بن نبي" قد استقلّ عن محمّد إقبال بأفكاره وأَغناها برؤيته الخاصّة.
ومن خلال دراساته في تاريخ حضارات العديد من الأُمم، خلص "بن نبي" إلى أنّ كلّ حضارة تبدأ بنظامٍ أخلاقي يكون له جذوره غالباً في بعض الأُسس الدينيّة. وفي ضوء نظريّته، أَوضح كيف فشلت العديد من الحركات الاجتماعيّة من خلال إغفال أهميّة الإصلاح الأخلاقي، مع التركيز بشكلٍ أساسي وفي معظم الأحيان على الوسائل العمليّة. ومن الأمثلة التي قدَّمها من الثورة الجزائريّة قوله إنّ المفكّرين والقادة الدينيّين حوَّلوا انتباههم إلى صناديق الاقتراع التي اعتقدوا خطأً أنّها تعمل كعصا سحريّة تشفي جميع مشكلاتهم الأخلاقيّة والتفكيريّة، ففشلوا في تحقيق الغاية التي طلبوها.
ورأى "بن نبي" أنّ العلاقات بين الدول في القرن التاسع عشر استندت إلى اعتبار أنّ "قوّة الدولة تعتمد على عددِ مصانعها ومَدافعها وأساطيلها واحتياطيَّاتها الذهبيّة. إلّا أنّ القرن العشرين قدَّم تطوّراً جديداً حيث بات التقدير للأفكار والقيَم الوطنيّة والدوليّة". لكنّه اعتبرَ أنّ "هذا التطوُّر لم يتحقّق كما ينبغي في العديد من البلدان النامية، لأنّ عقدة الدونيّة خَلقت افتتاناً مشوّهاً مع معايير القوّة المُستنِدة إلى أمورٍ ماديّة، وسط طغيان النزعة الكمّيّة، فلا يُسأل الباحث مثلاً عن الموضوع الذي تناوله في بحثه، وإنّما يُسأل عن عدد صفحات الكِتاب الذي نشره". وقال "بن نبي" إنّ المؤلِّف نفسه قد يقع أسيراً لهذه النزعة فيفتخر بأنّه أَخرج كتاباً من كذا صفحة... بدلاً من أن يركِّز اهتمامه على ما في الكتاب من أفكار.
وعلى الرّغم من معرفته الجيّدة بالفكر الغربي وتأثُّره به في بعض الأحيان، إلّا أنّ أمله في التغيير بقي معلّقاً على الأصالة الإسلاميّة، ومن خلال الرجوع إلى المَنبع الإيماني الأساسي للمُسلمين. وعلى هذا بنى خطّته في سبيل نهوض الأمّة.
*كاتب وإعلامي من لبنان