تناقلت وسائل الإعلام الوطنية منذ أيام خبر نشوب نزاع بين الشركة الوطنية للصناعة والمناجم وشركة تازيازت موريتانيا ليميتد TASIAST MAURITANIE LIMITED على خلفية اتهام الأولى للثانية بإغراء بعض عمالها المهرة ودفعهم للاستقالة تمهيدا لاكتتابهم.. ونشرت بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي اليوم خبرا مفاده أن شركة TMLSA فصلت عشرات العمال بضغط من السلطات الإدارية التي ذكر أنها تدخلت لصالح شركة SNIM وأن المسرحين أضحوا في برزخ بطالة "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء".. ومع عدم الإحاطة بوقائع القضية، التي لم أطالع عنها إلا ما طالعه الكثيرون، وبحكم متابعتي لأوضاع الشركة الوطنية للصناعة والمناجم، موضوع مقالي المعنون: "عـقد في تسيير شركة سنيم" المنشور بتاريخ 13 أغسطس 2020، لذلك ارتأيت، كالعادة، تقديم إنارة تتناول الأبعاد القانونية للقضية، لفائدة الرأي العام الوطني المهتم بالموضوع. وستتمحور الإنارة حول حرية العمل ومنع الإكراه فيه (أولا) ومبدأ المنافسة في الميادين الاقتصادية (ثانيا) والقيود الواردة على حرية التعاقد في مجال الشغل (ثالثا) قبل أن أختم بالخلاصة التي تعكس وجهة نظري الشخصية.
أولا/ حرية العمل ومنع الإكراه فيه
من الحقوق الأساسية للإنسان حقه في أن يختار عمله وأن لا يرغم على أداء أي خدمة لا يرتضيها، حيث تنص المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه: "1. لكل شخص حق العمل، وفى حرية اختيار عمله، وفى شروط عمل عادلة ومرضية، وفى الحماية من البطالة" ويدخل المساس بمبدأ حرية اختيار العمل في إطار ممارسات الاسترقاق المعاقبة جنائيا، حيث تنص المادة 5 من مدونة الشغل الموريتانية على ما يلي: "یلتزم العامل بكل حریته ویحظر العمل الإجباري أو الإلزامي الذي یطلب بواسطته عملا أو خدمة من شخص تحت تھدید توقیع عقوبة ما، ولا یقدمه هذا الشخص بمحض إرادته كما تحظر كذلك أیة علاقة عمل ولو لم تكن بموجب عقد عمل یطلب من خلالھا لأي شخص عمل أو خدمة لا یرغب فیھا. كل مخالفة للترتیبات التالیة تعرض للعقوبات الجنائیة المنصوص علیھا في المادة 5 من القانون رقم:2003-025 الصادر بتاریخ 17/07/2003 القاضي بقمع المتاجرة بالأشخاص".
وقد ألغي القانون رقم 025-2003 المذكور وحل محله القانون رقم 2020-017 المتعلق بمنع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وحماية الضحايا، الصادر بتاريخ 6 أغسطس 2020، المنشور في عـــــــ1468ــــــــدد الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 30 أغسطس 2020، الذي ينص في مادته الأولى على أنه "يهدف إلى منع كل أشكال الاستغلال التي يمكن أن يتعرض لها الأشخاص.. ومعاقبة مرتكبيها". وتعد مادته الثانية ضمن الاتجار بالأشخاص: "يعـد اتجارا بالأشخاص تجنيد أشخاص أو نقلهم أو ترحيلهم أو تحويل وجهتهم أو إيوائهم أو استقبالهم باستعمال القوة أو السلاح أو التهديد بهما أو غير ذلك من أشكال الإكراه أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال حالة استضعاف أو استغلال نفوذ.. يشمل الاتجار بالأشخاص أيضا.. العمل أو الخدمة قسرا".. وتعرف نفس المادة حالة الضعف بأنها "أي وضع يكون الشخص فيه مجبرا على الخضوع للاستغلال بسبب حالته الضعيفة، لا سيما بسبب وضعه غير النظامي في الإقليم، أو حالة الحمل أو حالة المرض الخطير، أو التبعية أو القصور الذهني أو البدني بشكل يمنع الشخص المعني من مقاومة مرتكب تلك الأفعال". كما يعرف القانون العمل أو الخدمة القسرية بأنها: "أي عمل أو خدمة تفرض عنوة على شخص تحت التهديد بأي عقاب ولا يكون هذا الشخص قد تطوع بأدائه بمحض إرادته".
ثانيا/ مبدأ المنافسة في الميادين الاقتصادية
تخضع ممارسة الأنشطة الاقتصادية في الدول العصرية، بما فيها الدولة الموريتانية، لمبدأ حرية المنافسة، حيث تنص المادة 1212 من مدونة التجارة في موريتانيا على ما يلي: "حرية المنافسة مكمل طبيعي لحرية التجارة والصناعة ويمكن لجميع المؤسسات المزاولة لنشاط اقتصادي أن تتنافس مع المحافظة على القواعد المنجرة عن تنظيم التجارة ومتطلبات النظام العام الاقتصادي وأعراف التنافس المشروع." وتنص المادة 1213 من نفس المدونة على ما يلي: "يجب أن يكون كل تقييد للمنافسة مبررا بأسباب من الصالح العام ومتناسبا مع الغرض المقصود. يكون باطلا اشتراط عدم المنافسة الذي يكون المدين من جرائه في استحالة مطلقة لمزاولة نشاط مطابق لتكوينه المهني." وتضيف المادة 1214 من نفس المدونة: "الإلزام بالأمانة الذي يتحمل به كل تاجر يؤدي إلى واجب الكف عن استعمال أي طريقة غير مشروعة للمنافسة."
وتلتزم الدولة بمساواة المستثمرين حيث تنص المادة 10 من مدونة الاستثمارات الموريتانية (القانون رقم 2012-052 بتاريخ 31 يوليو 2012) على ما يلي: "یحق للأشخاص الطبیعیین أو الاعتباریین المقصودین في المادة الأولى من هذه المدونة أن یكتسبوا، في إطار القوانین المعمول بھا، كل الحقوق مھما كانت طبیعتھا في مجال الملكیة والتنازلات والترخیص الإداري وأن یشاركوا في الصفقات العمومیة. وأیا كانت جنسیاتھم، یتلقى الأشخاص الطبیعیون أو الاعتباریون المقصودون في المادة الأولى من ھذه المدونة، مع مراعاة أحكام الباب الثالث المتعلق بأنظمة الامتیاز، نفس المعاملة بالنظر إلى الحقوق والالتزامات المترتبة على التشریع الموریتاني والمتعلقة بممارسة الأنشطة المشمولة في ھذا القانون. وبھذه الصفة، یتلقى الأشخاص الطبیعیون أو الاعتباریون الأجانب معاملة مماثلة لتلك التي یتلقاها الأشخاص الطبیعیون والإعتباریون الموریتانیون مع مراعاة المعاملة بالمثل ودون المساس بالإجراءات التي قد تعني مجموع الرعایا الأجانب أو قد تنجم عن أحكام المعاهدات والاتفاقیات التي انضمت لھا موریتانیا".
ثالثا/ الــقــيـــود على حرية العمل
وضع القانون الموريتاني مبدأ التزام العامل بعدم منافسة رب عمله، وحدد الشروط التي تحد من حرية تصرف العامل أثناء سريان عقده، حيث تنص المادة 25 من مدونة الشغل على ما يلي: "ما لم ینص العقد على خلاف ذلك، ومع مراعاة تنظیم الجمع بین الوظائف، یجب على العامل أن یبذل كل نشاطه المھني لصالح المؤسسة التي تستخدمه. غیر أنه یجوز له، ما لم یتفق على خلاف ذلك، أن یمارس خارج مواعید عمله، ومع مراعاة النصوص المنظمة للجمع بین الوظائف، كل نشاط مھني لا یحمل إمكانیة منافسة المؤسسة أو یضر بحسن أدائه للخدمات المتفق علیھا. ولا یقبل شرط عدم المنافسة عند انقضاء عقد العمل الذي یلتزم به العامل إلا: - إذا كان فسخ العقد نتیجة استقالة العامل أو فصله بسبب خطإ جسیم ارتكبه. - إذا كان الالتزام بعدم المنافسة لا یزید عن سنتین ولا عن مسافة 150 كلم من مكان العمل. - إذا كان من طبیعة النشاط المھني المحظور أنه ینافس نشاط صاحب العمل بصورة غیر مشروعة". ويفهم من هذه المادة أنه عندما يتخلف أحد الشروط الثلاثة فإن العامل يكون حرا من الالتزامات المرتبطة بالمنافسة غير المشروعة.
الخـــلاصـــة
إن من مقاصد حرية المنافسة أن تتوفر السلع والخدمات الجيدة بأسعار مخفضة بفعل منافسة المتنافسين ومن ذلك المنطلق فليس من العدل حرمان اليد العاملة من الاستفادة من زيادة الرواتب والمزايا التي يحصلون عليها بفعل التنافس بين أرباب العمل في سعيهم لاجتذاب العمال المهرة.
وأعتقد أن استخدام الشركة الوطنية للصناعة والمناجم للنفوذ والضغط لإبقاء بعض العمال في خدمتها كارهين يعد تعسفا والأدهى من ذلك أن الإكراه قد يحيد بالعلاقة مع العمال عن سكة قانون الشغل déraillement باعتبار العمل القسري مساسا بحقوق الإنسان ولأن فرضه يستحق التحقيق باعتباره معاقبا جنائيا. أما مقاضاة سنيم لشركة تازيازت، بسبب المنافسة غير المشروعة، فمن قبيل الدعاوى المعهودة التي تختص فيها المحاكم التجارية ويبدو أن من أسباب ضعف المركز القضائي لشركة سنيم انقضاء عقود عمل العمال موضوع التجاذب ووجود منشآت شركة تازيازت في ولاية إنشيري على بعد أكثر من مائة وخمسين (150) كيلومترا واختلاف سلع الشركتين وتمايز عملائهما فالذين يشترون الذهب لا يعبأون عادة بالحديد.
ونظرا لمكانة الشركة الوطنية للصناعة والمناجم ولما يعلقه عليها المواطنون الموريتانيون من آمال ولما كان لها من آثار اجتماعية ونفع عام فمن غير اللائق أن تتراجع إلى مستوى تصفية الحسابات مع عمال بسطاء يسعون للحصول على مزايا أفضل ومن دواعي الاستهجان انشغالها بأساليب لا تليق في ملفات أخرى (يمكن أن أتناولها في مواضيع لاحقة).. خاصة وأن الرأي العام الوطني علم أنها تنازلت مؤخرا، عن المطالبة بمبلغ يربو على ثلاثة وثلاثين (33) مليون دولار لصالح شركة ADDAX ENERGY S.A..