عندما خبت جذوة عطاء البلاد العربية والإسلامية في عهد ما سمي بعصر الانحطاط، كانت بلاد شنقيط (موريتانيا) الصحراوية النائية تزخر بالمعارف وتعج بالعلوم والآداب، وهي التي سيروي أعلامها أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين بمتون اللغة وفنون الأدب وينابيع العلم، غرس النهضة العربية الحديثة في مصر والسودان والسعودية والأردن والعراق، وأصقاع عربية وآسيوية وأفريقية أخرى متعددة.
ذلك ما توصل له محمد أحمد سالم الباحث الموريتاني المتخصص في مجال الخط والمخطوطات، من خلال كتابه «الخط والمخطوط في بلاد شنقيط من النشأة إلى نهاية القرن الرابع عشر الهجري» الذي صدر للتو.
وتناولت مقدمة الكتاب الذي تصفحته «القدس العربي» أهم ملامح سيرورة الخط الشنقيطي التاريخية، بينما تناول الباب الأول الثقافة العربية الإسلامية في بلاد شنقيط ضمن مدخل سياقي تاريخي يتناول الثقافة الشنقيطية التي نشأ في كنفها الخط، ويرصد أهم ملامح سيرورتها التاريخية.
وتناول الباب الثاني الخط العربي في بلاد شنقيط بمختلف جوانبه مع عرض لوضعية الخط فيما بعد استقلال موريتانيا وتقديم لنماذج من خطوط بعض مشاهير علماء بلاد شنقيط.
وعرض الباب الثالث تاريخ المخطوط في بلاد شنقيط، وملامح المخطوط الشنقيطي الببلوغرافية، وألوان الفن فيه، واهتمام الشناقطة بالمخطوطات، وحصيلة الجهود التي تم القيام بها لفهرسة وصيانة المخطوطات.
وأكد الباحث محمدن أحمد سالم في توضيحات لـ «القدس العربي» تناول فيها إنجازه هذا «أن أعمال إنجاز هذا البحث استمرت نحو عشرين سنة بسبب نقص المراجع والشحٍّ في الوسائل، قبل أن تساهم الثورة الرقمية في توفير الكثير من صور المخطوطات، وبنشر خلالها العديد من المراجع المفيدة».
وأعرب عن أمله في أن يكون قدم «صورة غير مخلّة عن الخط والمخطوط في بلاد شنقيط، وعن الإطار الزماني والمكاني، والسياق الثقافي الذي أنتج ذلك الخط الشنقيطي ذا الأنواع المتعددة، والخصائص المتميزة، والذي جسدته المخطوطات الشنقيطية، وعكسته مكانة الخط لدى الشناقطة واهتمامهم به، وأن نوفي أعلام هذا الفن في هذه الربوع بعض حقهم في التعريف، والذين طالما أغفل المؤلفون في تراجمهم لهم هذا الجانب من عطائهم وتميزهم، وأن يكون فيه ما يضيء للقارئ العربي وللمهتمين بفن الخط العربي عموما جانبا من تراث الأمة، ونموذجا من أساليب المجتمعات العربية الإسلامية في إبداع الجمال، وأن يكون حافزا للباحثين لتعميق الدراسات حول هذا التراث».
إهمال التأليف حول الخط
وقال «على الرغم من اهتمام الشناقطة بالخط، والمكانة الكبيرة التي حظي بها لديهم، فإن المؤلفين منهم قديما لم يهتموا بالتأليف فيه، كما لم ينل حديثا أي نصيب يذكر من عناية الباحثين، حيث لم نعثر على أي دراسة أو بحث يتعلق بالخط لدى الشناقطة، باستثناء أدواته، التي تناولها بالذكر الموجز كل من المؤرخ المختار بن حامدٌ في جزء الثقافة من موسوعته «حياة موريتانيا» تحت عنوان: «الكتابة الخطية» والأستاذ الخليل النحوي في كتابه «بلاد شنقيط المنارة والرباط» تحت عنوان: «أدوات المعرفة والكتابة» وفيما عدا ذلك، فإن المكتبة الموريتانية تخلو تماما من أي كتاب أو دراسة عن الخط الشنقيطي؛ لا عن تاريخه، ولا أنواعه، ولا مدارسه، ولا أعلامه».
أما فيما يخص المخطوطات الشنقيطية، فعلى الرغم من قدم الاهتمام بها، نسبيا، حيث يرجع إلى بدايات القرن العشرين الميلادي، وكان ذلك على يد أجانب، إلا أنه لم تظهر حتى الآن أي دراسة شاملة عن المخطوط الشنقيطي، تتناول أبعاده المختلفة، فلقد انحصرت كل الجهود التي بذلت على الفهرسة، ومن المعلوم أن الفهرسة تتطلب فيما تتطلب المعرفة والإلمام بالخصائص المختلفة للمخطوطات المفهرسة.
الوصف السطحي
ومع ذلك فإننا نجد الفهارس التي تعرضت للمخطوطات الشنقيطية، والتي اعتمد أغلبها على خبرات أجانب، لا تتعدى في أحسن الحالات، جانب الوصف السطحي المختصر.
وإذا كان بعض العاملين في مجال الفهرسة قد اكتسبوا خبرة في هذا المجال نتيجة لطول ممارستهم له، إلا أن تلك الخبرة، وإن كانت مهمة، ظلت محدودة نتيجة لعدم توفر المفهرسين على معلومات دقيقة حول خصائص المخطوط الشنقيطي، وأنواع الخط المستخدمة في كتابته، حيث يجد المفهرسون مثلا في عبارة «خط مغربي» حلا سهلا يريحهم من عناء معرفة نوع الخط الذي كتب به المخطوط بصورة دقيقة. وتوجد إلى جانب ذلك بعض البحوث والمقالات المختصرة التي تركز على بعض العموميات، كالتاريخ الثقافي الذي له صلة بالمخطوط، وتتداخل فيها المعلومات التاريخية، مع الملاحظات العامة، وتتميز بالتكرار، حتى لتكاد تكون نسخة طبق الأصل بعضها عن بعض.
مساهمة حضارية كبيرة
وتابع «إن من بين أهم أهداف هذا الكتاب هو التعريف بهذا الجانب المنسي أو المغيَّب من تراث الشناقطة، وإظهار أن مساهمتهم في الحضارة العربية الإسلامية لم تقتصر على المتون المؤلفة في الفقه واللغة وغيرهما، أو على الشعر، بل تعدتها إلى جوانب أخرى عديدة يعد الخط والمخطوط أحدها، وأنه كان للشناقطة أسلوب متميز في فن الخط وصناعة المخطوط الذين يشكلان أحد أهم المجالات التي أبدعت فيها هذه الحضارة، وأن يجد فيه المهتمون بالخط والمخطوط الشنقيطي، من خطاطين وباحثين ومفهرسين للمخطوطات وغيرهم ما يفيدهم، ويغنيهم من عناء المكابدة والبحث».
بحث ومغامرة
وقال «هذا فضلا عن أن فكرة البحث في أصل الخط الشنقيطي ظلت تراودنا منذ زمن، منذ أن اطلعنا على بعض المراجع العربية التي تتحدث عن انقراض الخط الأندلسي واندراس رسومه، وتستشهد بصور من مخطوطات، إن لم يخبرك مخبر بأنها كتبت بالأندلس، فلن تترد في الجزم بأنها خُطّت في إحدى المحاضر الشنقيطية، وأخرى كتبت بإحدى المدن الشنقيطية يجزم من يراها بأنها خطت بالأندلس أو أن كاتبها أندلسي. إن ذلك الشبه يدعو إلى إعادة البحث في المسلمة التي تواضع عليها الباحثون من تلاشي الخط الأندلسي، بينما الواقع يشهد أن هذا الخط قد حوفظ عليه واكتسب حياة جديدة في بلاد شنقيط».
كما نهدف من جهة أخرى، يضيف الباحث، إلى الإسهام في الدراسات المتعلقة بالخط المغربي، والتي لا تزال قليلة، ولا يزال مجال البحث فيها ذو سعة، إذا ما قورنت بالدراسات حول الخط في المشرق العربي. كل ذلك دفعنا إلى القيام بهذه المغامرة، ولا يمكن أن نصفها إلا بذلك، في ضوء غياب مصادر يعتمد عليها ومراجع يرجع إليها. ولعل من سأل ببساطة – عندما اطلع على عنوان البحث- قد أصاب كبد الحقيقة حين قال: «أي شيء يمكن أن يكتب في هذا الموضوع الذي لا مرجع له ولا مصدر؟».
تراث متفرق
إننا مدركون أن تناول جزء بسيط من تراث بلد ما، وفي فترة زمنية محدودة، أمر صعب، أما تناول جانب مهم كهذا بأكمله، فمن الصعوبة البالغة أن تحيط به دراسة واحدة، فهو تراث متفرق في أرجاء البلاد الشنقيطية، مما يجعل جمعه عملا طويل النفس، لا يمكن أن ينهض به باحث مفرد، فالضباب لا يزال يلف أغلبه، ويد البِلى تلاحق ذخائره، والصدور التي تكنزه، والأعلامُ الذي يحسنون صنعته يتناقصون يوما بعد يوم، وكلما مات أحدهم ذهب معه جانب من الإجادة وبعض من الصنعة.
وفي ضوء عدم توثيق هذا التراث، وشح مصادر الموضوع بصورة عامة أخرى فيما يخص بعض فتراته، أو يتعلق بمناطق بعينها، راودتنا فكرة الاقتصار على فترة زمنية معنية أو منطقة جغرافية بذاتها، غير أنا عدلنا عن ذلك، وسعينا لتناول الموضوع بصورة شمولية، عبر توسيع الإطار الزماني والمكاني للبحث. وفي الحقيقة فإن السبب في ذلك لا يرجع إلى عدم ثراء هذا التراث، أو إلى قِلّته، فهو على العكس تراث ضخم وثري، وإنما يرجع إلى عوامل متعددة ليس أقلها ندرة المصادر المكتوبة، وتضارب المرويات الشفهية، ولأن كل طور من أطوار تاريخ هذه البلاد، وكل منطقة من مناطقها يحتاج الخط والمخطوط فيها إلى أن يجد ما يستحقه من البحث والاستكشاف حتى يمكن تقديم صورة حقيقية وشاملة عنه.
موضوع بكر
إن هذا العمل، يكاد يكون – في جزء كبير منه- موضوعا بكرا غير مسبوق في مجاله، جديدا في موضوعه الذي لم يحظ حتى الآن بأي دراسة متخصصة، وإن كان نثِير جوانب من مادته متفرقا في بعض المصادر. ومن الجلي أن الدراسات التي تكون تأسيسية في مجالها، والتي لم تتوفر لها مقدمات يمكن الانطلاق منها والاسترشاد بها، لابد أن تكون ناقصة، إلا أنه مع ذلك هو أول توثيق لعطاء الشناقطة في مجال الخط، وأول مؤلف يخص الخطاطين الشناقطة بالترجمة والتعريف، ويدرس المخطوط الشنقيطي من جوانبه المختلفة، محاولا تجميع خيوط هذا الجانب من التراث، وتناوله بأسلوب وصفي مقارن، يرصد تجليات ظاهرة الخط والمخطوط في تكونها ويتبع مراحل سيرورتها التاريخية ومختلف مستوياتها ومجالاتها، من أجل إيجاد العلاقة التي تربط بينها، وتقديمها في صورة منسجمة. ولقد انطلقنا في بحثنا هذا من اعتقاد راسخ بأن ما خلفه الشناقطة من تراث في مجال الخط والمخطوط، جدير بالدراسة والبحث، ليعرفه أهله أولا، وليتعرف عليه غيرهم، وبنيناه على افتراض وهو أن بلاد شنقيط قد أنتجت نمطا متميزا من الخط أساسه الخط الاندلسي، وأسلوبا خاصا في صناعة المخطوط، يمثلان إضافة، وإثراء للتراث العربي الإسلامي، وللبحث أن يثب صحة هذا الافتراض، أو ينفيها.
مراجع وخط وخطاطون
ويضيف الكاتب «لقد تطلب البحث العودة فضلا عن الكتب، والمجلات، والرسائل الجامعية والمخطوطات، إلى المصادر الشفوية الموثوقة، من ذوي الاختصاص من شيوخ، وغيرهم ممن لهم صلة بالخط والخطاطين، أو اهتمام بالمخطوطات صناعة، أو جمعا، أو رعاية. ولقد أفدت إفادة كبيرة من مجموعة من المراجع، لاسيما في التاريخ الثقافي، بالإضافة إلى مجموعة من البحوث والمقالات المتفرقة في مجال المخطوطات الشنقيطية، فضلا عن مجموعة من الكتب التي تتعلق بتاريخ الخط العربي المشرقي، والمغربي، ومجموعة من الرسائل الجامعية، أثبتها في قائمة المصادر بنهاية الكتاب.
والحقيقة أن المصادر الشفوية تبقى – في ظل غياب دراسات عن هذا الموضوع- هي المصدر الرئيسي، إلا أن التعامل معها تطلب قدرا كبيرا من الحيطة والتحري، والتسلح بالروح النقدية الفاحصة، من أجل غربلة الحقائق من الأوهام، والواقع من المبالغات، والترجيح بين الروايات المختلفة، لاختيار ما يوافق الواقع ويقبله المنطق. ولقد فوجئنا بمدى سطحية، وتبعثر المعلومات لدى بعض من يفترض أنهم أهل الذكر في هذا المجال».
صعوبات وتحديات
وعن الصعوبات التي واجهته في إنجاز البحث، قال الباحث أحمد سالم «واجهتني صعوبات ملموسة تتحدث عن نفسها، عبر كل باب وفصل وكل موضوع وصورة، وهي صعوبات لم تقتصر على جمع مادته من مصادرها المكتوبة والشفوية، بل تعدتها إلى نواح أخرى عديدة من بينها الصعوبات التي تطلبها تجميع وتصوير مئات النماذج من الخطوط، والمخطوطات».
وقال «مع تقدمنا في البحث ظلت دروبه تتسع بتقدمنا فيه وتتشعب، فكلما وصلنا إلى نقطة، تبدّت لنا أخرى جديرة بأن يُهتم بها وتدرس بصورة مفصلة، وموضوعا يتطلب المزيد من البحث والتنقيب، وشعرنا في مرحلة ما، أننا في بحث لا نهاية له، وكاد الخوف من عدم الإحاطة بجوانب الموضوع المتعددة، والتيه في تشعباته المتشابكة أن يثنينا عن خوض هذه التجربة، غير أن غناه وتنوعه، وطرافته ظل عامل إغراء ومدعاة تحفيز ودفع رغم كل ذلك».
مناهج حديثة
لقد درسنا هذا التراث، يقول الباحث، مستفيدين من مناهج البحث الحديثة، ومن معرفتنا بالخلفية التي نشأ بها، وبآثار الشناقطة فيه، وقمنا في البداية برسم تصور أولي للموضوع، لتقريب بعيده، وجمع متفرقه، فحددنا ثلاثة محاور عريضة هي: الخط، والمخطوط، والسياق الثقافي الذي أنتجهما، وبنيناه على بعدين: مكاني محدود، وزماني ممتد: مكاني حددناه بالمجال الشنقيطي الذي شمله فضاء ثقافي ولغوي ذو خصائص دينية وعلمية متميزة، بدون إهمال من عاشوا في نفس المجال الجغرافي ممن تجمعهم وسكانه نفس الخصائص.
أما البعد الزماني وإن كانت بدايته مفتوحة تنبني على مفهوم النشأة، الذي حددناه إجرائيا بالمخطوطات أو المؤلفات «الأولى» التي كتبت أو ألفت في هذه البلاد، إلا أن نهايته تتحدد بتعريف المخطوط بأنه النص المكتوب أو المستنسخ يدويا قبل انتشار الطباعة، والطباعة لم تنتشر في هذه البلاد بصورة فعلية إلا في العقدين الأولين من القرن الخامس عشر الهجري/ نهاية القرن الميلادي العشرين.
وخلص في الأخير للقول «بما أن أي ظاهرة لا يمكن فهمها معزولة عن سياقيها التاريخي والثقافي، فقد خصصنا بابا للحديث عن تاريخ الثقافة الشنقيطية وتحولاتها منذ دخول الإسلام إلى هذه الأرض».
نواكشوط ـ «القدس العربي»: