ذكريات مبعثرة (32)

ذكريات مبعثرة (32)
كانت تكلفة النقل في البداية مقننة بخمس أواق ما لم يعرج الراكب فإن فعل زاد خمسا أخر، وكانت في سيارات الأجرة وفرة، وكان أغلب سائقيها سنغاليين وإن وجد موريتاني بين الفينة والأخرى، وغالبا ما يكون شابا. وكان صاحب سيارة الأجرة ملزما بصبغها بلوني العلم الوطني ووضع شارة مضيئة تحمل عبارة TAXI فوقها وتثبيت قائمة الأسعار في مقدمتها بالعربية والفرنسية.
بعد استصلاح المقاطعتين 1، 5، (تيارت والسبخة الآن) بدأ نشاط حافلات ضخمة تجوب المدينة عبر عدة خطوط، شمالا وجنوبا ثم شرقا وغربا، بثلاث أواق (ارتفعت بعد حوالي عامين إلى خمس، ثم إلى عشر بعد سنوات) فانصرف الناس عن سيارات الأجرة. وتفاديا للخسارة حاول بعض أصحاب هذه تثبيت عدادات والعمل وفق النظام المتبع عالميا دون جدوى، لذلك اختفت سيارات الأجرة الخفيفة فترة من تاريخ العاصمة، ثم بدأت تستعيد نشاطها مع توسع المدينة وتراجع أعداد الحافلات جراء عدم الصيانة، وفي عام 1985 ألغي احتكار النقل الحضري من طرف شركة النقل العمومي المسيرة للحافلات المذكورة بهدف وضع حد لأزمة النقل التي وصلت في العاصمة إلى حد لا يطاق، وهو ما تم بالفعل وكان من أعراضه الجانبية تحويل بلادنا إلى مستودع لنفايات السيارات.
ذكرت تيارت والسبخة ولم أذكر مقاطعة الميناء لعدم وجودها في تلك الفترة؛ فبعد سنوات تضخمت السبخة جراء توافد النازحين إلى العاصمة ومن باعوا قطعهم فانضموا إلى أحياء الانتظار فعمدت الحكومة حوالي عام 1977 إلى قَسمها نصفين استحدثت من أحدهما (الشرقي) المقاطعة السادسة (الميناء الآن) واحتفظت كل من المقاطعتين بما يقع فيها من المنشآت الحيوية؛ لذا ظلت سلطات السبخة في مكاتب مستأجرة إلى عهد قريب، وبقيت مقاطعةً دون مصلحة للبريد لأن مقر البريد ومكاتب المقاطعة ومفوضية الشرطة تقع في حيز المقاطعة المستحدثة؛ بينما بقيت الأخيرة فترة فترة دون مسجد ولا مستوصف لأن الأخير يقع في حيز السبخة.
كان سالم ابن بُبُوط أول –وربما آخر- حاكم جمع بين المقاطعتين المذكورتين، وفي أول خريف بعد إنشاء مقاطعته تضررت جراء الأمطار، ولم يكن مشيدا إلا مباني المقاطعة، أما السكان فكانوا في الخِيم والأكوخ، فاستمات وجدَّ في التخفيف من معاناة رعيته، وحدث الشيء نفسه بالسطاره في القوارب في الوقت نفسه، ولكن لم يكن سالم هناك.
سالم ابن بُبُوط غير دعي ولا نكرة؛ فهو ابن أحمد سالم بن امحمد بن بُبُوط من ناحية؛ وهو من أخرى إداري تقلب في عدة مناصب ربما أشرت لاحقا إلى ما يدخل منها في مجال هذه الأحاديث. وقد أصبح الآن شيخا متقاعدا بعدما عهدته شابا أديبا أريبا قوي البنية محبا للعدل والإنصاف؛ وهو ما ذكرني –في جانبي العدل والتجربة- بنظرية سمعتها من أحد أصدقائي مؤداها أن التقاعد أسخف قرار تتخذه السلطات؛ فهي تكتتب حدثا غرا لا دراية له ولا يَعُول أحدا وباستطاعته العيش من كل الطرق، وتدربه وتصبر على أخطائه، ثم لا تزال ترفع مكانته بالتقدمات الوظيفية والتعيينات وغيرها حتى إذا راكم تجربة وخبرة كبيرتين وانعدمت أخطاؤه تقريبا وضعفت قواه وصار يعول أسرة أو أكثر أحيل إلى التقاعد أحوج ما كان إلى الوظيفة وأحوج ما كانت الوظيفة إليه ثم اكتتب حدث غر فجرى مع المسار ذاته.
تعمدت السلطات قديما أن تسمي مقاطعات العاصمة بأرقام متسلسلة بدءا من الشمال كما يقضي العرف المتبع. وكانت أسماء الولايات أرقاما أيضا، لكن شوش تسلسلها استحداث ولايات تكانت (9) وگيدي ماغه (10) وتيرس زمور (11) واينشيري (12) لأن كلا منها محاطة بأرقام غير ما يفترض أن تحاط به؛ فمثلا إينشيري محاط بأرقام 6، 7، 8، وهذه لا تلي رقم 12 الذي يحمله.
وكان من أوائل التغيرات في العهد العسكري إعادة تسمية الولايات ومقاطعات العاصمة بأسمائها الحالية؛ وأذكر أن أمتارا من القماش ثبتت على أعمدة بمداخل مقاطعات العاصمة تحمل عبارات من قبل: "مرحبا بكم في السبخة، مرحبا بكم في الميناء، مرحبا بكم في تيارت.." للفت الانتباه إلى الأسماء الجديدة التي ظلت القديمة تزاحمها في بعض المقاطعات إلى اليوم.

 

محمدو سالم جدو