كتاب :مسار مستقيم.. سيرة مرحلة

"الأسلوب هو الكاتب" كما يقول - بترجمات مختلفة - الفيلسوف الموسوعي الفرنسي جورج لويس لكلير Georges-Louis Leclerc, comte de Buffon
(1707 - 1788)، أحد رواد عصر التنوير.. ومن يعرف الأستاذ أحمد كلي أو يعرف بعض معالم سيرته الذاتية ونشأته، يدرك دون عناء أن كتابه "مسار من مسارات"، بأسلوبه ومضمونه، يعبر بصدق عن شخصيته وعن مسار حياته الخاصة والمهنية.. إنه "مسار" مستقيم فعلا، كما هي شخصية المؤلف في حياته اليومية وفي علاقاته وتعاملاته.

فقد تمرّس أحمد كلي في المحاماة وكان أول نقيب لهيئة المحامين الموريتانيين، ومارس السياسة ووظائفها مبكرا فكان أول مدير لديوان الرئاسة، وتقلد بعد ذلك عدة مناصب وزارية في مراحل مختلفة، وشارك في تأسيس التعددية الحزبية مع نخبة من أصدقائه ورفاقه؛ أمثال الوزيرين النابهين حمدي ول مكناس ومحمذن ولد باباه، ومثل بلاده سفيرا في عدة عواصم غربية ومنظمات دولية.. وفي كل هذه المراحل، ظل وفيا لمبادئه وقناعاته، دون مزايدة أو مساومة.

وقد عكس الكتاب ثراء شخصية مؤلفه وتنوعها، فبرزت فيه نظرة القانوني الممحِّص الذي يدقق في الكلمات ودلالاتها، كما تجلت رؤية السياسي وتعاطيه مع المواقف والاعتبارات، إلى جانب لباقة الدبلوماسي الذي يعرف متى يرسل بصره وأين يضع قدمه.. يكتفي بالإيماء والإشارة أحيانا، ويقرب العدسة أكثر حين تحتاج الصورة مزيد إضاءة وتوضيح.

لكن المحيط الديني والثقافي والبيئة الاجتماعية والسياسية التي اكتنفته وأحاطت به، كان لهما الأثر الاكبر والأعمق في نشأة المؤلف وتنشئته وتشكل شخصيته، في مختلف المراحل والمسارات اللاحقة.
لذلك كان الشيخ عبد الله ابن الشيخ سيديّ هو الشخصية المحورية في الكتاب بلا منازع، ولم يكن ذلك لمكانته العائلية فحسب، باعتباره جد المؤلف وعم والده، وإنما أيضا لأن الشيخ عبد الله كان محور زمنه في منطقته وإقليمه، بل وصلت مكانته وتأثيره إلى أبعد من ذلك في كثير من مناطق العالم الإسلامي، وقد أدى فريضة الحج عام 1945 (قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية)، وترك في كل من الحرمين الشريفين وقفا مائيا ما زال قائما، وكان معروفا بالإنفاق مُولعاٌ به.

لقد كان الشيخ عبد الله مدرسة مكتملة البناء متعددة الأبعاد والمجالات؛ أخلاقيا وإنسانيا وثقافيا وسياسيا، والمؤلف هو خرّيج هذه المدرسة وابن بيئتها الحضارية.

لكن الحضور الساطع لشخصية الشيخ عبد الله، لم يحجب الضوء كليا عن الكثير من الشخصيات الأهلية والوطنية والدولية، التي كان لها حضور ودور مؤثر في حياة المؤلف وفي محيطه المحلي والوطني ثم في علاقاته الخارجية ومجالات عمله القانوني والدبلوماسي ومتطلبات مناصبه السياسية.

والكتاب، كما عبر عنه المؤلف، "يمكن اعتباره نقطة التقاء بين السيرة الذاتية والتنويه بأشخاص محببين" (ص 5)، لكنه في الواقع سيرة ذاتية لمنطقة بكاملها ولمرحلة زمنية ممتدة في الماضي ومتصلة في المستقبل.
ولا شك أن من طبعوا الماضي بشخصياتهم أو ساهموا فيه، وإن بتفاوت، "يستحقون علينا أكثر من النسيان" (ص 5). لكن المستقبل "بالضرورة يحتاج رؤية جديدة... سبيلا لخلق مستقبل أفضل، جديد هو الآخر" (ص 13)، هذا ما يقرره المؤلف وهذا ما يجب أن يدركه الجميع.
***
وما زال المجال فسيحا للتوسع في عرض الكتاب والتعمق أكثر في مضامينه، لكني لا أريد أن أحرم القارئ متعة أن يكتشف بنفسه ما حوته صفحات هذا "المسار" من معلومات وإشارات وتنبيهات (ومن حكايات ومواقف طريفة أيضا)، لا غنى عنها لمن يهتم بتاريخ البلد وتطور المجتمع وما شهده من أحداث وتحولات..
وقد حفل الكتاب، إلى ذلك، بالعديد من الوثائق والصور، بما فيها صور ووثائق لم تنشر من قبل، ما يثري مضمونه ويوثق أهم الأحداث والمناسبات التي وردت فيه.

ولا بد، هنا، من الاعتراف بأن الترجمة المُتقنة، التي أنجزها الاستشاري الدولي أمين مكتبة الشيخ سيديّ الأستاذ بابا ابن هارون ابن الشيخ سيديّ، جاءت على مقاس النص الأصلي وبما يناسب المقام.

عبد الله ابن إسحاق
(Altilimity)
------------
** الصور:
- غلاف الكتاب
- نموذج من رسائل الشيخ عبد الله ابن الشيخ سيديّ يظهر مدى اهتمامه وحرصه على مصالح الوطن وخدمته، قبل أن يعلن رسميا قيام الدولة الموريتانية (لاحظ التاريخ)..