ظلت لحقب طويلة من التاريخ مثابة العلم والعلماء، قطنتها أجيال متعاقبة من حملة العلم والحكمة، وووجدوا في أجوائها المناخ المناسب للتأليف والعطاء العلمي، وأمها الطلاب من أقطار الدنيا فنهلوا من مدارسها واستلهموا من مخطوطاتها، وعشقها الأوروبــــيون الرحالة والمستكشفون ومات البعض منهم في طريقه الشاقة إليها، وفضل الكثيرون منهم الإقامة فيها، إنها مدينة تمبكتو جوهرة الصحراء قلب جمهورية مالي النابض وحاضرة الأولياء ومكنزة المخطوطات ومصهرة الأعراق.
أصل التسمية
يجمع المؤرخون على أن معنى كلمة «تمبكتو» هو «حافظة الأمانات» وهو مأخوذ من اسم امرأة من الطوارق اسمها «تن بكتاون» أي حافظة الأمانات، كانت تقطن في الموقع الذي تأسست عليه المدينة فيما بعد.
وكانت هذه المرأة تحفظ للسكان الرحل الأمانات والودائع والأمتعة فاشتهر بها المكان وغلبت التسمية على المدينة بعد ذلك.
وإذا كان الطوارق قد سموا تمبكتو بهذا الاســـم لارتباطها عندهم بالعجوز بكتو حافظة الأمانات، فإن القواميس الإنكليزية تفسر هذه التسمية بأنها «المكان القصي» الذي لم تطأه قدم البشر ولم يدركه بصر.
وقد سلبت تمبكتو ألباب الرحالة الأوروبيين، كما أكدت ذلك الروايات التاريخية، لفترات طويلة حتى أن منهم من ضل الطريق إليها، ومنهم من أسعفه الحظ في الوصول إليها واستكشافها، وقرر البعض المكوث بين أهلها.
حضارة وثقافة
تعتبر مدينة تمبكتو العاصمة الثقافية والتراثية لجمهورية مالي وملتقى الحضارات والثقافات منذ مئات السنين، وهي لذلك جوهرة الصحراء الكبرى؛ وقد توالت على حكمها عدّة امبراطوريات منها امبراطوريات السودان السونغاي وامبراطورية الفلان ثم الامبراطورية الإسلامية المغربية التي حظى ملوكها السعديون بولاء وتبعية تمبكتو من القرن التاسع الهجري وحتى دخول المستعمر الفرنسي للمنطقة.
ومما تحكيه الروايات التاريخية أن الإمبراطور مانسا موسى الذي حكم المنطقة في فترة من القرن الـ14 الميلادي، أخذ معه إلى رحلة الحج عام 1324 للميلاد نحو 180 طنا من الذهب، وكانت نتيجة ذلك أن انخفضت أسعار الذهب في مصر آنذاك.
وبعد عودته جلب معه مهندسا معماريا مصريا اسمه أبو إسحاق الساحلي وأعطاه مئتي كليوغرام من الذهب مقابل بناء مسجد وقصر رئاسي في تمبكتو.
أعراق وهجرات
تقطن مدينة تمبكتو قبائل زنجية ذات أصول متعددة وقبائل وبطون عربية قدمت إليها عبر هجرات متعددة الوجهات مقبلة من الجزائر وموريتانيا والمغرب تحديدا ومن القبائل العربية المهجرة من الأندلس، ومن سكان المدينة الطوارق وهم أيضا قبائل عدة. وبالنظر للتلاقح الحضاري، فقد انصهرت في تمبكتو أعراق كثيرة فأصبح سكانها مزيجا بين العرب والأمازيغ والطوارق وقبائل السنغاي والفلان والبمبره.
ويتعايش الجميع على أرضها تماما كما تتعايش فيها رمال الصحراء وإبلها وحرها وقحولتها مع مياه نهر النيجر وعذوبتها والخضرة المحيطة بها والزوارق التي تمخرها كل يوم.
وينشط سكان المدينة بنظام غريب فللعرب نشاط التجارة، وللطوارق الـــترحــال والرعــي وتربية المواشي، وللسنغاي النهر والصيد والأسماك والزوارق ونقل المسافرين عبر النهر.
المثابرة على العلم
كان القرن السادس عشر هو الذي بلغت فيه الحضارة الإسلامية أوجها في السودان الغربي وذلك عبر تطورات متلاحقة معتمدة على عنصرين أساسيين هما التجارة والتعليم.
وكانت المظاهر الحضارية في السودان الغربي تزداد ازدهارا في كل حقبة على مستوى المدن التي تتلاءم مواقعها مع توارد قوافل الشمال عليها في الدرجة الأولى، وهو ما جعل من المدينة محطة القوافل الأولى في جميع بلاد السودان، فسكنها كثير من التجار وقصدها جمع غفير من العلماء والطلاب، ما حولها إلى عاصمة العلم والثقافة في السودان الغربي الافريقي كله. ووصفت مدينة تمبكتو في تلك الحقبة بأم مدائن السودانيين سواء في العلم والحضارة أو في العمران والتجارة.
ازدهار ورقي
خلال القرن السادس عشر أصبح سكان تمبكتو، يزيدون على خمسة وثلاثين ألف ساكن، وربما لم تعد تفوقها آنذاك في كثرة السكان مدينة سودانية أخرى في غرب افريقيا، غير مدينة غاوة العاصمة السياسية للإمبراطورية السنغاوية التي كانت تمبكتو آنذاك إحدى مدنها الكبرى.
وفي تلك الأثناء أصبحت المدينة العاصمة الثانية للإمبراطورية في ميداني الاقتصاد والثقافة معا، حيث انتظمت شوارعها، وأحيطت بسور واق ومؤمن، أما المنازل فقد ازدانت نسبة كبيرة من مبانيها بواجهات في شكل زرائب أو حدائق صغيرة تربطها إلى حيطان البيوت سياجات.
وقد احتوت في تلك الأثناء على ثلاثة مساجد كبيرة ما لم يتهيأ لغيرها من كبريات مدن السودان الغربي آنذاك وأخذت أسواقها طابعها الإسلامي، وشهدت تواردا نشطا للقوافل الكبيرة عليها ما زاد حركة التبادل.
منصة إنتاج الثقافة
وإذا كان القرن السادس عشر قد شهد نشاطا كبيرا لعلاقات تمبكتو التجارية مع بلدان المغرب ومصر، فإن ذلك القرن هو الذي أصبحت خلاله تلك المدينة أيضا مركزا هاما من مراكز الإنتاج الثقافي ضمن ميدان الحضارة الإسلامية الفسيح. وهكذا لم يقتصر دور مدينة تمبكتو على مجرد التبادل مع جزء من العالم الإسلامي، وإنما تجاوز ذلك إلى استيعاب ما أنتجه العالم الإسلامي ككل، والمشاركة في تنميته ونشره بين أمم السودان الغربي وشعوبه.
حركة التدريس
عرفت تمبكتو، حسب المصادر التاريخية، خلال القرن السادس عشر نشاطا كبيرا لحركة التدريس، وقد ضمت مدارسها العديد من الطلاب والأساتذة. كما شهدت المدينة لأول مرة في تاريخ السودان الغربي اتساع التعليم الجامعي وتوارد عليها في تلك الأثناء عدد من علماء من بلدان المغرب الذين ساهموا في تنشيط التعليم وتعميقه وفي تلك الفترة بدأ العلماء السودانيون في الإنتاج فكتبوا شروحا لعدد من المؤلفات الهامة التي ألفت خارج السودان.
وانقسم التعليم في تمبكتو خلال القرن السادس عشر إلى مراحل ابتدائية وثانوية وعليا.
ويقسم العلماء المدرسون أوقاتهم خلال النهار فيقدمون مثلا في الصباح دروسا لطلاب في المستوى الثانوي، ثم يجلسون بعد الظهر لطلاب المرحلة العليا أو العكس، ومن هنا يبدو الانتظام في المراحل التي يمر بها الطالب من حيث التدرج في مستويات التعليم بين المراحل ووجود منهج لكل مرحلة.
وكانت أمكنة التدريس الأساسية هي المساجد والجوامع وكان من أشهرها وأكثرها اكتظاظا بجموع الطلبة والمدرسين خلال القرن السادس عشر جامع سنكرى الواقع في القسم الشمالي من مدينة تمبكتو وقد بنته سيدة فاضلة ورد في الروايات أنها كانت من الموسرات، ثم جامع دنفريير وكان قد بناه في الأصل أحد الأندلسيين لكانكان موسى سلطان مالي، ثم ادخلت عليه تحسينات ووسعت مساحته مرتين خلال القرن السادس عشر وذلك ليتسع لجموع قاصديه من الطلبة والمصلين ويبدو أن تكاثر الازدحام عليه هو الذي كان يدعو باستمرار إلى العمل على توسيعه.
ويأتي بعد هذين مسجد سيدي يحيى وقد بني تخليدا لأحد علماء المغرب الذين باشروا التعليم في تمبكتو خلال النصف الأول من القرن السادس عشر.
أوقاف وإعانات
يبدو أن الأوقاف والصدقات كانت العامل التمويلي الهام في ازدهار حركة التعليم في تمبكتو خلال القرن السادس عشر؛ فمعظم المصاحف والمخطوطات التي بقيت من تلك الفترة تحمل في طياتها ذكرا بتوقيفها على الجوامع من طرف أشخاص كانوا يبتغون من وراء ذلك وجه الله؛ كما كان تعيين الأئمة والمدرسين وترتيب الجرايات «التغذية» لهم يتولاه القاضي وهو ينفق على ذلك من الأوقاف والصدقات التي كان يتلقاها بسخاء كبير من المحسنين.
كنوز المخطوطات
تختزن مخطوطات تبمكتو حقبا طويلة من تاريخ غرب أفريقيا، ومن علاقة المنطقة بالعالم العربي والإسلامي، وتكشف أن المدينة أنجبت علماء كتبوا في الفقه والعلوم الشرعية والفلسفة والعلوم والفيزياء والكيمياء والطب وعلم الفلك والأدب واللغة والتاريخ.
ونشطت تجارة الكتب والمخطوطات وأدوات العلم في المدينة، خصوصا في أوج عهدها الزاهر في القرن الـ16 الميلادي، حيث كانت ملتقى للعلماء والطلبة من عدة أمصار. وتقول بعض الروايات إنها آوت في فترة من الفترات نحو 25 ألف طالب علم يمولون كلهم من خزائن الأوقاف الإسلامية، وهو عدد كبير في ذلك الزمان، كما أنها كانت تحتضن ثلاث جامعات كبيرة ونحو 180 مدرسة قرآنية.
وأثارت مخطوطاتها بما تحويه من كنوز تاريخية اهتمام مكتبة الكونغرس الأمريكي وجامعة هارفرد، فنسخت منها الكثير، كما تأسست مراكز للبحث فيها وحفظها، وتعالت أصوات لصونها من التلف والإندثار.
ولا غرو فتلك الكنوز من المخطوطات تختزن قرونا من تاريخ غربي أفريقيا، ومــــن عــــلاقة هذه المنطقة بالعالم العربي والإسلامي، وتكشف أن تمبكتو أنجبت علماء وآوت آخرين ألفوا وكتبوا في كل شيء، من الفقه والعلوم الشرعية إلى الفلسفة والعلوم والفيزياء والكيمياء إلى الطب وعلم الفلك والأدب واللغة والتاريخ… إلخ.
ففي مكتبات تمبكتو يقبع نحو 700 ألف من المخطوطات المهددة بالاندثار، تقرضها الحشرات وتزحف عليها عوادي الزمن، وفي عام 1970 شكلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونيسكو« هيئة للحفاظ على مخطوطات هذه المدينة، التي أدخلتها المنظمة في قائمة التراث الإنساني.
جوامع وعمران
تضم مدينة تُمٌبُكْتُو مجموعة الجوامع العريقة التي ظلت على مدى قرون مراكز تعليمية إسلامية كبرى ومراكز تربوية مهمة.
وأشهرها جامع تمبكتو الكبير الذي يعتبر من أقدم وأكبر مساجد المدينة التاريخية في غربي افريقيا.
وبني الجامع الكبير بصورة متواضعة تتناسب مع حجم سكان المدينة في تلك الفترة.
وقد جدد بناءه السلطان المالي الحاج منسا موسى (707 732هـ، 1307 1332م)، الجامع وبنى صومعته، وذلك بعد عودته من الحج سنة 724هـ، 1324م) وهو الوقت الذي ضم فيه مدينة تمبكتو إلى مملكته.
وقد ظل هذا المسجد موضع عناية كثير من السلاطين والحكام الذين تعاقبوا على حكم مدينة تمبكتو. فقد مر بعدة إصلاحات من حسن إلى أحسن، كما عرف ترميمات وتَوْسِعات تقتضيها الظروف وزيادة السكان والثروات المتوافرة وتطور العمران.
ويشتمل المسجد من الداخل على خمسة وعشرين صفًا من العمد، تمتد من شماليه إلى جنوبيه، وعلى ثمانية صفوف ممتدة من الشرق إلى الغرب.
وشُيدت أهم أجزاء المسجد بالحجر كالعقود، وشُيد الجانب الغربي والمحراب وبعض أجزاء الكساء الخارجي والسقف من الخشب المتين، وللمسجد صحنان، أحدهما واســــع والآخر صغير متصل بالمئذنة، ويعتبـــر هذا المسجد الجامع من المعالم الأثرية البارزة لمدينة تمبكتو الإسلامية التاريخية.
وتضم أيضا مسجد سَنكُري وهو حي من أحياء المدينة، كما تضم مسجد سيدي يحيى التادلسي.
وكانت هذه المساجد الثلاثة بصفة خاصة معاهد تعليمية كبرى ومراكز ثقافية وتربوية مهمة، فكانت المرحلة العليا من التعليم فيها تشبه ما كان في الأزهر قديمًا وما هو كائن اليوم، إذ إن حلقات الدراسة ما زالت تُعقد في الجامع الأزهر وينتظم فيها طلاب معهد الدراسات الإسلامية الذين يُمنحون شهادة الإجازة العالية «الليسانس» تمامًا كزملائهم الذين يتخرجون في كليات جامعة الأزهر الحديثة المختلفة.
أضرحة وترميم
حرمت تمبكتو خلال احتلالها من قبل تنظيم «القاعــــدة في المغرب الإسلامي» بين أبريل/نيســــان 2012 ويناير/كانون الثاني 2013 من جزء كبير من تراثها الثقافي وعدد من الأضرحة التي دمرتها الحركة.
وتستعدّ مدينة الـ 333 ولي صالح، بفضل مشروع كبير مموّل من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونيسكو« لإستعادة ملامحها القديــــمة، من خلال إعادة ترميم تراثها المدمــــر، حيث قام المخرّبــون من تنظـــيم القاعدة، خلال فترة احتلالهم للمدينة، بتدمير 14 من بين 16 ضريحا للأولياء الصالحين في المدينة المدرجة من قبل يونيسكو ضمن لائحة التراث العالمي للإنسانية.
وتحمل الأضرحة رمزية كبرى في تمبكتو ويزورها السكان أيام الإثنين والخميس والجمعة.
عبد الله مولود
القدس العربي