ليس من المبالغة أبداً أن نقول إن أستاذ الجيل الدكتور محمد ولد عبدي، رحمه الله، يمثل بالنسبة للشعر الموريتاني الحديث والمعاصر رمزاً مركزياً ذا حضور أدبي مؤسِّس، وقد كان فعلاً كذلك، فعلى يديه ومن ثنايا وحنايا منتجه الإبداعي الثر خرجت أجيال من الشعراء الشباب، الذين يملأون دنيا الإبداع اليوم ويشغلون الناس. ومن تحت عباءته خرجت أجيال من المثقفين والنقاد والصحفيين، وخرج منتج إبداعي ملء السمع والأبصار، عرّف القارئ العربي بالوجه الآخر الناصع الرائع لذلك البلد البعيد السعيد، الذي طالما رزح رهين محبسين: فقر اقتصادي مدقع، وكسوف إعلامي مفزع، فشاع عنه ما شاع من الصور النمطية وكليشهات الإغراب السلبية. لقد كان الدكتور محمد ولد عبدي حسنة من حسنات الدهر على الثقافة الموريتانية والعربية، ولكننا تأخرنا كثيراً قبل أن نفطن لذلك، لأن المعاصرة حجاب كما يقال. وقد كان المرحوم محمد ولد عبدي نموذجاً للمثقف العضوي المرتبط بنسغ أرض الوطن، والموسوعي الآخذ بطرف كبير من كل فن، فكان شاعراً باذخ الشاعرية، وناقداً ذا ذائقة لاقطة ألمعية، وصحفياً على قدر كبير من الحصافة والجاذبية. وفي حلاوة معشره ومكارم أخلاقه كان أيضاً يجسد نوعاً من شعرية الحضور وطقوس العبور للخط الوهمي الفاصل بين المثل الأعلى والإنسان، وبين المبدع كفكرة والمبدع كشخص. وفي كل هذا يصدق عليه هو أيضاً القول إن عمره إن لم يكن طويلاً فقد كان عريضاً، حيث ترك لنا مدونة إبداعية ونقدية وثقافية ثرية قل أن يترك مثلها من عاش ضعف عمره. وفي الشعر مثلت مجموعاته الشعرية وخاصة «الأرض السائبة»، و«كتاب الرحيل وتليه الفصوص»، حقلاً دلالياً ومدونة مؤسسة لتجربة الحداثة في الشعر الموريتاني. وفي الدراسات مثل كتابه «السياق والأنساق في الثقافة الموريتانية.. الشعر نموذجاً» مقاربة بالغة الأصالة والاستنارة للثقافة الموريتانية مستعيناً في ذلك بآخر ما توصلت إليه الدراسات الثقافية.. كما مثلت دراساته عن الأدب الإماراتي «مقاربات نقدية في نصوص إماراتية» تثميناً للمنتج الإبداعي الإماراتي واحتفاءً مستحقاً به، وكذلك قارب في عمل آخر «جدلية الغرب والشرق في الشعر العربي المعاصر»، وتقفى «فتنة الأثر على خطى ابن بطوطة في الأناضول»... وسوى ذلك من مؤلفات عديدة كتحقيقه الرائع الماتع لكتاب «عمدة الأديب في معرفة القريض والنسيب لأديجه الكمليلي». ولئن كان المقام اليوم ليس مقام سرد واستطراد، فلا أقل من إيراد ثلاث ملاحظات خاطفة عن المرحوم الدكتور محمد ولد عبدي: لقد كان رحمه الله نموذجاً للمثقف النقدي، فقد عمل في نقده لأنماط الأنساق الثقافية الثاوية في الشعر لتفكيك كثير من المركزيات الذهنية الراسخة بل الراكدة في العقل الجمعي الموريتاني. كما سعى لتخليص المشهد الثقافي الموريتاني ككل من كثير من «الثيمات» الساذجة وأوهام الكهف المعششة وأولها مقولة حتى لا أقول أكذوبة «المليون شاعر» التي فككها في دراسته الاستطلاعية القيمة عن المشهد الشعري الموسومة: «ما بعد المليون شاعر.. مدخل لقراءة الشعر الموريتاني المعاصر». وإن كان ترك لنا في ذلك الكتاب نصاً أبيض هو إنتاج محمد ولد عبدي نفسه، الذي استثناه من مدونة الشعر المدروسة، ولكن من أحكامه النقدية على النصوص نستطيع ملء فراغات تلك الكتابة بالحبر الأبيض، لأن أحكامنا تحكم علينا، كما يقال في التعبيرات القديمة. ولم تقتصر جهود د. عبدي النقدية الثقافية على الكتب والبحوث المحكمة، بل كان يكتب أيضاً في الصحافة الموريتانية طيلة عقد الثمانينيات محللاً ومتعقباً كثيراً من الظواهر والمظاهر وكان عنوان عموده في جريدة «الشعب» في تلك الأيام «مقامات وتراتيل»، وكان يكتب في الصفحة الأخيرة من الجريدة أحياناً أيضاً في باب «منتدى الشعب»، كما كان يقدم برنامجاً أدبياً للإذاعة. كان الدكتور عبدي رحمه الله إضافة إلى كونه مبدعاً وصاحب مجاز ومزاج وجمالية في المفردة الشعرية لا تضاهى، وذا أسلوب من الطراز الرفيع البديع، كان أيضاً نموذجاً للمثقف المنهجي، ذي التفكير النسقي، القادر على البحث بدأب وأدب، وتتبع المعارف في مظانها، ووضع القصاصات والاستخلاصات في سياقات منهجية متماسكة بالغة الجلاء والتجلي. وفي هذا العمل الجاد والاجتهاد درس ومثل أعلى لكثير من مثقفينا اليوم الذين قد يروق لهم أحياناً الارتجال والاستسهال فيقعون -لا سمح الله- تحت طائلة الادعاء والابتذال.
وكان الدكتور محمد ولد عبدي رحمه الله محباً للإمارات التي احتضنته واحتضنتنا جميعاً وأتاحت لنا من الفرص الكثير، وقد ظلت على الدوام حاضنة لكل المثقفين والمبدعين العرب، ولنا نحن الموريتانيين خاصة، ولا أفوت هذه الفرصة السانحة دون التعبير من هذا المنبر عن خالص الامتنان والعرفان لدولة الإمارات العربية المتحدة، وقيادتها الرشيدة، ولكل فرد من أفراد شعبها الكريم. لقد رثى الدكتور عبدي نفسه، وتحدث عما بعد رحيله، وكانت ثيمة الرحيل والرثاء حاضرة بقوة في شعره، وقال في «شقاق الطين» ما سيقوله عنه الشعراء، يرحمه الله.. وأقول له في هذه اللحظة ما قال هو: كيفَ لاسمِكَ أن يُعدَ؟
وأنتَ مِيمُكَ مَيسَمُ المنفىَ، مَراثِي المَنكبِ الغربيِّ، مَجلَى الرَّمل يَضربُه محارُ العمر. حاؤُكَ حَيرةُ الصّحراء، حاراتُ الصَّفيح، حكايةُ البحر الأُجاج. كأنَّ مِيمَك - يا محمد- ماءُ من ماتوا بِلفح الريح في تلكَ الرِّمال الشُّعثِ." رحم الله الدكتور محمد ولد عبدي، وأسكنه الفردوس الأعلى.