لقد قامت وزارة الثقافة و الصناعة التقليدية و العلاقات مع البرلمان مؤخرا ، بالإشراف على طباعة و نشر مجموعة من الكتب، عمدت إلى إنتاجها كوكبة من المؤلفين الموريتانيين ، وذلك بدعم و إسناد من الوزارة . وقد كان لنا الشرف شخصيا ، في الإسهام في هذا المجهود الفكري. وذلك بإعداد كتاب بعنوان:
" وادان إحدى أقدم حواضر بلاد شنقيط ، نبذة عن تأسيسها و مؤسسيها و مختلف هجراتهم منها." في هذا الكتاب ، حاولنا إظهار العلاقة بين عمران المدينة عقب إنشائها ، ووفرة مواردها من جهة ، و بين كثافة سكانها و تعدد أعراقهم و تباين نحلهم و مذاهبهم من جهة أخرى، مبينين أن الحيز الجغرافي الذي كان يكتنف المدينة ، قد عرف منذ زمن طويل هجرات بشرية متعاقبة.
و من بين المجموعات البشرية التي ذكرنا وصولها تباعا إلى مدينة وادان ، ابتداء من القرن الأول الميلادي، تجدر الإشارة إلى قبائل أغرمان المسيحية ، القادمة من غرما بليبيا ، و التي انتدبها الرومان لخفارة طرق الذهب ببلاد الملثمين لدى اكتساحهم لها ، وكذا قبائل إيزوكاغن الوثنية ، القادمة من وادي درعة بجنوب المغرب ، و مجموعات أخرى من أصول صوننكية .
إضافة إلى قبائل البافور ، ذات الديانة اليهودية ، القادمة من منطقة الجريد الجزائرية ، فضلا عن مجموعات إحرضانن و إيرناكن وغيرهم .
هذا عدى عن الهلاليين و المعقليين و لوداية ، و سواهم من القبائل العربية المختلفة، الوافدة من الجزيرة العربية ،عبر صعيد مصر وغيره من المنافذ الأخرى .
ما يظهر أن النسيج الإ جتماعي بمدينة وادان ، كان منذ نشأنه ، و لوقت طويل، يتسم بتنوع عرقي، و تباين ثقافي و عقدي . حيث كانت قبيلة مسوفة السنية ، تتساكن مع قبائل البافور ذات الديانة اليهودية ، كما أسلفنا، و قبائل أغرمان المسيحية ، و مع مجموعات إيزوكاغن الوثنية . ناهيك عن مختلف طوائف الخاوارج من إباضيين و صفريين و غيرهم . و قد استمرت تلك التعددية الدينية و ذلك التنوع المذهبي ، إلى أن بسط أمراء المرابطين سيطرتهم على وادان ، في أوائل القرن الحادي عشر ( 1075م) ، وإلى أن قاموا بالقضاء على الديانات المخالفة للإسلام ، و باجتثاث شأفة المذاهب المغايرة للمذهب السني المالكي من المدينة و محيطها.ومن هنا يتضح ، كما أسلفنا ، أن النسيج الاجتماعي لمدينة وادان ظل لفترة من الزمن، يتسم بتعدد عرقي و تنوع عقدي. و استمر الأمر كذلك إلى أن أحكمت مسوفة قبضتها على المدينة ،
وفرضت نفوذها على القبائل التي كانت تتعايش معها في ذلك المجال الجغرافي ، نتيجة لما قد سبق ذلك من توغل جيش عبد الرحمن ابن حبيب ابن أبي عبيدة في المنطقة ، وما مهد له ذلك التوغل لاحقا ، من إحكام سيطرة أبي بكر ين عامر على وادان و محيطها ، و ما تلا تلك السيطرة من توافد معتنقي الفكر االمرابطي وأشياعه على المدينة و احوازها . و ما مهد له ذلك من التفاف كبريات قبائل صنهاجة حولهم وتبنيها لمذهبهم.
ولقد أوضحنا أيضا في المؤلف ، أن وجود وادان في منطقة تماس يبن الشمال الإفريقي المصاقب أوروبا، و الساحل الصحراوي المتاخم لإفريقيا السوداء، جعل من المدينة ميناء صحراويا مزدهرا ، وبؤرة تمازج اجتماعي، وفضاء تبادل تجاري، و مركز إشعاع علمي و روحي نابض. وتبعا لكل ذلك، ذاع صيت المدينة في بلدان الساحل و الصحراء ، و شمال إفريقيا ، و أرويا،
ما قاد إلى إدراج اسمها منذ القرن الرابع عشر، ضمن الأطلس الجغرافي الأوربي, و أهلها ، بالتالي للمساهمة في نظام التجارة الأطلسية ، أكثر من سواها من المدن الساحلية الصحراوية الأخرى. ولقد أثار موقع المدينة الإستراتيجي ، و دورها الاقتصادي ، و تأثيرها الفكري والروحي، اهتمام العديد من الرحالة و المستكشفين و المدونين و المؤرخين العرب و الأفارقة و الأوربيين من أمثال : حسن الوزان ومرمول كراباخ والبلاذري و فالنتينو فبرناندش و باتشيكو بيريرا على سيل المثال لا الحصر.
هذا ولم يفتنا أن نبين في الكتاب أن حجم التبادل التجاري بالمدينة ، ونوعية السلع المتبادلة في أسواقها، قد حولاها تدريجيا إلى ملتقى طرق تجاري يعج بالحركة ويضج بالنشاط. و قد أوضحنا أيضا أن تأسيسها في أواسط القرن الثاني عشر بجوار القرى المسوفية التي كانت موجودة قبلها بالمنطقة ، و ما استتبعه ذلك من توافد النخب المرابطية المهتمة بالعلوم و المعا