ظلت دُور النشر الأوروبية خلال السنوات العشر الماضية تضخ تباعاً عشرات الكتب المتعلقة بالعالم العربي على خلفية الاهتمام المحموم بهذه المنطقة من العالم التي عرفت بعض دولها تحولات سياسية ضمن ما سُمي بـ«الربيع العربي»، وتتراوح مجالات اهتمام موجة -أو بالأحرى موضة- الكتب هذه بين محاولات تفسير وتفكيك الأسباب الاقتصادية والسياسية التي أدت إلى نشوب الثورات في دول شمال أفريقيا أساساً، وتحليل واستشراف عناوين المرحلة المقبلة التي يتوقع أن يتكشف عنها المستقبل في مرحلة ما بعد إخفاق الربيع العربي، أو العودة مجدداً لإعادة اكتشاف هذا الشرق الأوسط الجديد- القديم، بكل تنوعه الثقافي والاجتماعي والديني، لضرورة ذلك من أجل مد القارئ الغربي بالخامة المعرفية والمعلوماتية اللازمة لوضعه في صورة ما يجري الآن من أحداث يراها على شاشات الفضائيات، وفي مختلف وسائل الإعلام. وضمن هذا النوع الأخير من المؤلفات يأتي الكتاب الذي نشير هنا بشكل خاطف إلى بعض محتوياته وعنوانه «أفكار متلقاة -أو مُسبقة- عن العالم العربي»، وهو من تأليف مجموعة كبيرة ممن يوصفون بأنهم أبرز المتخصصين الأكاديميين الفرنسيين في شؤون المنطقة، وقد أشرف على إنجاز وتنسيق الجهد البحثي في هذا الكتاب، وقدَّم له، بيير فيرمران، وهو أكاديمي ومحاضر بارز متخصص في تاريخ المغرب العربي المعاصر، بجامعة باريس «رقم واحد».
وفي تقديمه للكتاب يقول فيرمران إن تصدر العالم العربي لواجهة الأحداث خلال الأعوام الماضية وسط صخب الثورات والانتخابات والاحتقانات، فرض على وسائل الإعلام الغربية أن تلتفت أخيراً إلى هذه المنطقة، بانشداد ظاهر، وبقلق من أن الآفاق التي بدأ هذا الحراك يتكشف عنها مع مرور الوقت ليست «ربيعاً عربياً» وإنما هي «شتاء إسلاموي» كما يشير إلى ذلك عنوان آخر فصول الكتاب. وبسرعة انتقل الحديث في الإعلام الغربي عما اعتبر في البداية «يقظة» أو تحولات ديمقراطية واعدة ليصبح بسرعة مدار الكلام عن دواعي التوجس والحذر من الآتي، بما فيه من عدم استقرار واضطراب وتجاذب مفتوح ودون سقف أو نهاية واضحين، هذا طبعاً وفي الذهن ما حملته بعض الاستحقاقات الانتخابية في دول شمال أفريقيا من مفاجآت لم تكن في الحسبان. وهذا ما يحتم استطراداً العودة إلى الجذور الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تأسست عليها أصلاً بعض دول الحراك العربي، لضرورة مساءلة وقراءة الماضي، في هذا الحالة كشرط شارط وضروري من أجل استكناه الحاضر، واستشراف المستقبل. وهذا بالفعل هو ما تحاول أبحاث الكتاب إنجازه من خلال تقسيم العالم العربي إلى وحدات اهتمام بحثي متفاوتة بين دول وطنية وإقليم وظاهرة، ومن ثم تقديمها للقارئ تباعاً. وفي هذا المقام توزعت الدراسات بين التأريخ لمخاض ظهور العديد من دول المشرق والمغرب العربيين الحديثة بعد سقوط الدولة العثمانية، ثم تالياً رحيل الاستعمار الأوروبي، مع إبراز أشكال التوافقات السياسية، المعلنة أو الضمنية، التي أقيمت عليها. وكذلك تعقيد البنيات والمؤسسات القائمة منذ ظهور الدول الوطنية، وما ظل يعتمل تحت قشرتها السطحية من تنافسات وصراعات طائفية وسياسية مؤجلة ومُرحَّلة، نرى بعض أكثرها حدة يعبر عن نفسه الآن في شوارع العديد من عواصم دول الحراك العربي.
وبهذه الطريقة يقدم الكتاب مجموعة «دراسات حالة» تتساند فيما بينها لتقديم الصورة الكلية العامة للعالم العربي، بكيفية يزعم مؤلفوه أن من شأنها تصحيح الكثير من الصور النمطية والأحكام المسبقة السارية في المخيال الغربي عن الشرق الإسلامي عموماً، وعن العالم العربي خصوصاً. وضمن دراسات الحالة هذه نقرأ عناوين بارزة تحيل إلى حالات دول بعينها من قبيل: «مصر: أهمية استراتيجية محورية» و«سوريا روح الأمة العربية»، و«تونس باعتبارها دولة علمانية»، و«لبنان... كانت سويسرا الشرق الأوسط»... الخ، كما نقرأ أيضاً عناوين أخرى تشير إلى أقاليم مثل «المغرب العربي... ملتقى الحضارات»، أو إلى زعماء سابقين مثل «القذافي كان مجنوناً»، أو إلى ظواهر مثل «الإسلاموية تهدد العلمانية التركية»، وهكذا بحسب تنوع مجالات اهتمام مؤلفي الكتاب، وأيضاً وفق مفهومهم الفضفاض، الذي يخلط أحياناً بين العالم العربي وبعض دول العالم الإسلامي الأخرى مثل تركيا وإيران، هذا للمفارقة على رغم الجهد الكبير الذي بذله منسقه «فيرمران» في المقدمة لتوضيح ما يعنيه مفهوم «العالم العربي» تحديداً ووجوه التمايز الثقافي بينه وبين بقية العالم الإسلامي الأخرى.
وليس هذا هو المأخذ الوحيد على الكتاب، فقد وقع أيضاً أحياناً كثيرة في الفخ الذي نذر نفسه وعنوانه لتجنبه، ألا وهو اجترار الأحكام المسبقة وتكرار واستنساخ الصور النمطية، وخاصة من ذلك كل ما يتعلق بالإسلام، حيث استبطن كثير من مؤلفي دراسات الكتاب أحكاماً مسبقة، خاطئة إلى حد بعيد، بشأن الإسلام والثقافة الإسلامية، ولذلك جاء كثير من عناوين فصولهم مستفزاً بل صادماً. ولذلك، وعلى رغم ما في الكتاب من جهد بحثي عميق، ومعلومات غزيرة، إلا أن حزمة الأفكار المتلقاة والمسبقة المستبطنة في أذهان بعض مؤلفيه، جعلتهم ينطلقون منها وكأنها بديهيات أو مسلمات، في حين أنها في الحقيقة أفكار موغلة في الوهم والوهن. ومن زاوية النظر هذه فربما جاز القول إن هؤلاء الباحثين إنما أعادوا مجدداً اكتشاف تلك الأحكام المسبقة والصور النمطية المعششة في المخيال الجمعي الغربي، أو لنقل إنهم أعادوا اكتشاف ذواتهم الثقافية أساساً، أكثر مما أعادوا اكتشاف العالم العربي، القديم أو الجديد!
حسن ولد المختار
الكتاب: أفكار مسبقة عن العالم العربي
المؤلف: مجموعة مؤلفين
الناشر: كافالييه بلو
عرض أقل