تتواصل التجاذبات حول اللغة العربية ما بين من يراها مجرد لغة كأية لغة تنقل معاني وأفكارا يعبر عنها بأصوات ويرمز لها بحروف ولا تعدو أن تكون لغة قوم منهم المسلمون ومنهم اليهود ومنهم المسيحيون وقد يكون منهم آخرون لا يدينون بشيئ ....وبين من يزيد بأن اللغة العربية فاقت كل لغات الأرض معني وفضلا حين نطق به جل جلاله و اختارها لحمل آخر رسالاته للبشرية نصا وروحا...
.فتصبح بالنسبة للمسلم شيئا آخر.
يقول الله عز وجل في محكم كتابه : "الله أعلم حيث يجعل رسالته" فهو أعلم بمن يصلح لها فاختار رسول الله صلي الله عليه وسلم وأعلم باللغة التي تحملها فاختار اللغة العربية والحرف العربي وأعلم بالمكان الذي تنطلق منه الدعوة فاختار أم القري.....وحين تكون اللغة العربية اختيارا وتفضيلا من الله علي سائر اللغات يصبح لزاما علي المسلم أن يجعلها كذلك...ولكن تفضيل العربية علي غيرها لا يعني تفضيل العرب علي غيرهم فيبقي التقوي هو معيار الفضل والتميز والقرب من الله.
والعربية ليست لغة لهجية بل كانت مكتوبة منذ وجدت وكان العرب يقرأون ويكتبون ولم يكونوا أميين-كما ذهب البعض- في خضم هذه التجاذبات غير المبررة وغير المفيدة- والتي تشهد غلوا و شططا وعنفا لفظيا وصل بالبعض إلي الإساءة للعرب و تتفيه حضارتهم والتقليل من شأنهم.
يقول هؤلاء إن الآية الكريمة "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ...." تعني أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب ولا قومه وهو تفسير مردود لكثير من الأسباب القطعية التي تقول بعكسه.....الصفة التي وصف بها رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذه الآية ليست صفة لشخصه الشريف وإنما نسبته لمولده أم القري مكة....وأهل مكة بجمعهم يقال لهم الأميون (لتنذر أم القري ومن حولها ...) وواحدهم يقال له أمي وهي نسبة لمكان لا صفة لشخص.
وفي هذا يقول الله عز وجل "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ...." وتعني بالأميين سكان أم القري......ومما يدعم هذا الرأي أن المعلقات لم تعلق إلا للقراءة يتفاخر بها أصحابها وذووهم ولو كان المجتمع المكي لا يقرأ فما القصد من تعليق تلك القصائد علي أسوار الكعبة....
كان العرب يقرأون الصحف و الألواح دون الحاجة للتنقيط ولما دخل أقوام عجم بكثرة للإسلام كان التنقيط في العصر الأموي علي يد الحجاج بن يوسف فتضاعفت حروف الأبجدية من أربعة عشر لثمانية وعشرين...وانتشر هذا الحرف في عموم البلدان حتي أصبح يكتب به مئات الملايين من المسلمين غير العرب وكان عامل حفظ للهوية الوطنية وللهويات الفرعية للناطقين بما يزيد علي خمسة وعشرين لغة حول العالم منها الفارسية والجاوية والهاوسا والسواحلي والأردية والكردية و الإيقور.......
ومن ضمن من اعتنقوا الإسلام أمم لها وجود من قبل ولها لغات عريقة وحضارات موغلة في القدم وإسهامات عديدة في تطور العقل البشري إدراكا وإبداعا وإنشاء وتعميرا....والفرس نموذج من هؤلاء...
اللغة الفارسية لغة آرية من فصيل اللغات الهندية الأوروبية وهي لغة قديمة نقلت حضارة أمة عريقة قدمت للإنسانية العطاء الكثير وقد يكفيها أنها في طبعتها الأفستية أيام الحضارة الساسانية كتب بها الزرادشتيون كتابهم المقدس الأفستا.
نشأ زرادشت في عصر الإمبراطورية الفارسية الإخمينية قبل 3500 سنة....وجاء بدين يعرف بالمجوسية ويعرف بالزرادشتية وبعقيدة تكاد أركانها تتشابه حد التماهي مع عقائد الديانات السماوية المعروفة.........وكان سلمان الفارسي أحد أتباع هذا الدين قبل إسلامه.
وقد ذهب الكثير من علماء الدين وتاريخ الأديان من المسلمين وغيرهم إلي القول بأنها ديانة سماوية وهو قول له سند قوي من حديث لرسول الله صلي الله عليه وسلم صححه الكثير من الثقاة منهم الإمام الشافعي....
يروي أن عبد الرحمان بن عوف لما سمع عمر بن الخطاب يقول إنه لا يدري كيف يصنع بالمجوس وهم ليسوا أهل كتاب قال له والله قد سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول :"سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
أسلمت فارس كلها ودخل الفرس في الدين الجديد ولأنها أدركت- كغيرها من الشعوب الإسلامية في آسيا وأفريقيا - واجب التهجي الأول بالحرف العربي للتمكن من القرآن نصه وروحه تحولت إلي كتابة لغتها بحروفه ...فكان منهم الشعراء والفقهاء واللغويون والعلماء والأئمة......وكذلك هو حال الهويات الثقافية الفرعية في بلادنا من بولارية وسوننكية وولفية.
لا يمكن فصل البولاري ولا السونكي ولا الولفي عن الحرف العربي الذي يبدأ به خطواته الأولي في التمدرس المحظري ولا يمكن القول بأنه أجنبي عليه -ولو من الناحية البيداغوجية- بل يمكن الجزم أنه من هذه الناحية بالذات يعتبر الحرف العربي الحرف الأم لكل هذه المكونات الوطنية الثلاثة.
و بعد تجربة طوعية امتدت لقرون من الزمن مع الكتابة بالحرف العربي ما تزال هذه القوميات الثلاثة قائمة بذاتها وبتميزها الثقافي وحضورها الديني في البلاد والمنطقة...مما يجعل حجة المخافة من الذوبان في الهوية العربية غير وارد اطلاقا........أما القول بحرف لاتيني في تجربة ما يزال البعض يتلمس بداياتها وقد أعييت دولا وحكومات ومنظمات لها موارد ضخمة ولها بالمشروع مآرب جمة فلا يعدو كونه مجرد استهلاك سياسي أو سعي واضح المعالم لتعطيل أو تشويش مسارات طبيعية نجحت بالماضي ولا يوجد أدني سبب للنكوص عنها
.الدكتور محمد ولد الراظي