قبل أيام قليلة حلت الذكرى الثامنة عشرة لرحيل أستاذ الأجيال وشيخهم وإمامهم، شيخي وأستاذي الأول الذي ترك أثرا عظيما في حياتي وفي حياة المئات وربما الآلاف من تلامذته في المعهد الإسلامي بأبي تلميت وفي مدرسة علب آدرس الإبتدائية وفي محظرة آل معاوية.
إنه العلامة الجليل الأستاذ الدنبجه المعروف لدى تلامذته اختصارا بـ "الأستاذ" ، ومعنى الدنبجه باللهجة الصنهاجية "يحيى" بن أحمد محمود بن محمد بن معاوية الحلي التندغي، لأمه ابنة عم أبيه السيدة آسية بنت المصطفى بن محمد الدنبجه.
ولد في مرابع قومه بمنطقة آمشتيل شرقي أبي تلميت سنة 1336هـ الموافق 1918م، ونشأ وترعرع في كنف أسرة ذات منزلة علمية واجتماعية كبيرة أحرزت المجد والسؤدد والعلم من طرفيها، قرأ القرآن ومبادئ الرسم والتجويد والنحو والفقه على والده، ثم درس مختلف العلوم المحظرية في بعض المحاظر المحلية الأخرى مثل محظرة أهل أحمدو فال، قبل أن يبدأ رحلته بين المحاظر المتخصصة خارج أحياء عشيرته، فحط الرحال أولا لدى القارئ محمد بن الرباني القلاوي الذي منحه الإجازة في قراءة الإمام نافع، ومنه إلى العلامة التَّاه بن يحظيه بن عبدالودود الجكني نجارا والـﯖناني دارا الذي أخذ عنه علوم النحو واللغة، وكانت مرحلته التالية في محظرة العلامة محمد عالي بن عبدالودود المُباركي الذي أخذ عنه علوم الفقه، وكانت محطته الأخيرة في حضرة الشيخ محمد الامين بن أحمد بن بدي العلوي الذي أخذ عنه الطريقة التجانية الحافظية.
بعد هذا المشوار الحافل في تحصيل العلوم بفنونها المختلفة على مدى أكثر من عقدين جلس العلامة الدنبجه للتدريس في محظرة أجداده، قبل أن يُنتدب للقضاء في بداية الستينات غير أنه اعتذر عنه مؤثرا التدريس في معهد أبي تلميت للعلوم الإسلامية الذي كان قد عُين مدرسا فيه منذ العام 1958م، وفي عام 1962م عُيّن مديرا مؤسسا للمدرسة الابتدائية في قريته علب آدرس ، ثم مدرسا في بعض القرى التابعة لمدينة روصو لفترة وجيزة ليعود سريعا عام 1964م إلى مدرسة علب آدرس التي ظل فيها مدرسا ومديرا ومربيا إلى أن حصل على حقه في التقاعد مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
ظلت محظرة الدنبجه مُشْرعة الأبواب أمام كل طلاب العلم والمعرفة طوال فترته في التعليم النظامي وعندما تقاعد وتفرغ للتدريس والفتيا والتوجيه والتأليف، إلى أن اختاره الله إلى جواره مساء الجمعة 20 رجب عام 1418هـ الموافق 21 نوفمبر 1997م ودفن رحمة الله عليه في مقبرة "انفني" الشهيرة إلى جانب والده وجده رحمهما الله.
لقد كان الدنبجه رحمه الله إلى جانب عُلوِّ كعْبه في علوم القرآن والفقه واللغة شاعرا عبقريا طويل النفس نظم في أهم الأغراض وطرق أشهر البحور الشعرية.
فمن شعره قوله في البكاء على الأطلال:
لدى الجانب الغربي من مَيْسة الدَّوِّ *** ديار غدون اليوم خالية الجـوِّ
لياليُّ فيكِ الخرد البيض لم تــــــدر *** عليك ولا أهليك دائرة الســـوِّ
لو أني حديث العهد باللهو والصبا *** حننت حنين الثاكلات على البوِّ
يرى الله يا أطــــــــلال أنك عندنا *** أحب على الإقواء من جانبي قوِّ
فمن لي بيوم مثل أيامـك الألي *** مضين وروض من رياضك مُحوَوِّ
ويقول من مقدمة نسيبية لإحدى قصائده في الفخر:
خلـيلـيَّ مـا بي غـير أنْ بعــدتْ دَعْدُ *** فألـبسنـي بُردًا مـن السَّقَم الـبُعْدُ
تُريح لـيَ الـحُمَّى تبـاريح حُبِّهـــــا *** رواحي، وتُغديـهـا عـلـيَّ إذا أغدو
تَرانـي كأنـــــــــي ذو فـــؤادٍ تَجلُّدًا *** وواللَّهِ مـا عـــندي فؤادٌ ولا عِنْــد
ولـمـا رأوا لحـمي قـلـيلاً وأعـظُمي *** أضرَّ بـهـا مـن صالب العَرق القَلْد
أتـونـي بـوفدٍ قـال هـــذا حــــرارةٌ *** لهـا شَعثٌ، والـبرد قـال بـــه وفـد
ولا بـيَ مـن حُمَّى ولا بـي حــرارةٌ *** ولا أنا مـجنـونٌ ولا سَقَمــــي بَرد
وما بي سـوى مـا بالحزاميِّ والذي *** بـه فعـلتْ مـن قبـلُ مـا فعـلت هـند
فلي مقلةٌ شتراءُ مـن طـول ما بكت *** ولـي كبـدٌ حـرَّاءُ حـرَّقهـا الـوجــد
صحـبتُ سـوى لـيلَى فألفـيـتُ حـبَّه *** ضعـيفـاً وإن يُحمل هـواه فـما يعـدو
وحـبـي سـوى ليلَى طريفٌ وحـبُّها *** تلـيـدٌ، وداءُ الـحـبِّ أقتلَــه الـتَّلــد
...
إلى أن يقول:
سقى الله مـــن ريع الأغانم أربُعًا *** عهدتُ كثـيراً مـا تَصِيف بـهـا دعـد
وأسقت بـوادي الطَّيّبيـنَ عهـودَها *** يـمـانـيةٌ يحـــــدو أواخرَهـا الرعــد
ديـارٌ أقـمـنـا بـيـنهــــــــنَّ لـيــائلاً *** لـذائذَ مـا فـيـهـا اضّـغانٌ ولا حقـــد
تـمـر بنـا الأعــوامُ فـيـهـا كأنَّهـــا *** أسـابـيــــعُ والأيـام طـالعُهـا سعــــد
محـلَّة آبـائـي ومسقط مَفرقــــــي *** وأوّل أرضٍ مسَّهـا مـنِّيَ الجِلــــــــد
مـنـازلُ أبنـاءِ «الـدَّنَبْجَ»، وإنهـا *** مـنـازلُ قـومٍ فـيـهـمُ رسَــخَ الـمـجـد...
لأستاذنا الدنبجه مساجلات وحوارات شعرية طريفة مع العديد من الأدباء والأعلام الذين قاسموه أجواء المحظرة أيام كان طالبا، من أمثال الأديبين اللامعين اﯕليـﯕم بن محمدو بن متالي التندغي وعبد الله السالم بن يحظيه بن عبد الودود، و مع زملائه في العمل أيام كان أستاذا في معهد أبي تلميت، مثل حواراته مع مؤرخ موريتانيا المختار بن حامدون الديماني...
يقول مخاطبا عبد الله السالم بن يحظيه:
أقول لبعض القانصـــين أَتانِ *** مهاتان بالوعسا ؟ أم امرأتانِ ؟
تأملْهما يا صاحِ إن كانتا هما *** فإنهمــــا لا شك آمنتــــــــان
فيجيبه عبد الله السالم بقوله:
سلام كعَرف الروض نحو فلان *** أسائله عن وجــــه آمنتان
فآمنة كالبدر، والبدر مفــــــرد *** وإني إليها دائـــــم الهيمان..
ويقول من قصيدة له طويلة إثر زيارته لقبر النبي صلى الله عليه وسلم عندما أدى فريضة الحج عام 1959م :
أَبرقٌ بالحجاز بـــدى يســيرا ××× يؤرقني مــن الليـل الأخـيرا
بلى إن البُريْــق به لقـــــلبي ××× أُثيرَ من البــــلابل ما أُثــيرا
أثار جواي أيـــام الحوايـــــا ××× وردد في جــوانحي الزفيــــرا
فلي شوق بطيبة واشتياق ××× بساكن طيبةٍ سكن الضميرا
فبات الطرف يلمع مستطيرا ××× ومِيض البرق يلمع مستطيرا
يكاد إلى العقيق إلى المنقى ××× إلى ملل فؤادي أن يطيــرا
فشمت صبيره بالغــــور إني ××× محـب أن أشيم به الصبـيرا
يذكرني ليـــالي أهــــل ليلى ××× يَحُلون الغــــدائر والمصيرا
ودورُ الطيبين زمــــان ليلى ××× فُويْــــقَ لبانها سمـــط أديرا
وأطلال بذات السرح كنــــا ××× نعد العــــيش أزمنها نضيـــرا
وأيام لنا بغدير جـــــــــرك ××× جعلنا الملتقى فيــها الغديـرا
وواد السدر أزمنه لدينـــا ××× يُحاكين الخَــــورْنقَ والسَّديــرا
مغان بينهن نشـأت أهـوى ××× زمان الغِــــرة الرّشَأ الغريــرا
زماني كنت للفتيــات زيرا ××× ولست الآن للفتيــات زيــــرا
حلفت برب مكة ياسلــيمى ××× وما أقسمت مرتكـبا كبيـرا
لما مثل النبي ترين حــتّى ××× يسيرَ النمـل مُحتَملا ثَبـيرا
ألا فامدح لعل مديح طـــه ××× يُـداوي من جــرائمك الكثيرا
رسول الله والوزر المرجَّى××× وشمس الحق والقمر المنيرا
ملاذ المذنبين إذا تبـــدى ××× جميع الناس ينتظر المصيـرا
...
خرَّجت مدرسة الدنبجه الأصلية والنظامية أفواجا من الفقهاء والشعراء والأطر المتميزين الذين طبعهم بطابعه الخاص، نذكر منهم مثالا لاحصرا: ابنه الدكتور الشاعر أحمد محمود، والشاعر الكبير محمد الحافظ بن أحمدو، والمهندس السالك بن خليفة بن بياه...
لقد أكرمني الله بأن كنت ضمن آخر دفعة من تلامذة الأستاذ، وتشرفت بالجلوس بين يديه والاستمتاع بفرائد الكنوز المعرفية والتربوية والأخلاقية التي كان ينثرها الشيخ على رؤوس طلابه بروحه المرحة وحنانه الأبوي وعلمه الغزير وتواضعه الجم، كان جسمه وقتها قد ضعف وقد نال منه المرض، لكن هيبته التي لا تقاوم كان لها سلطان يأخذ بمجامع القلوب، لم يكن يضرب ولا يسُب ولا يُقبِّح، لكن أسلوبه في التأديب والتهذيب كان أبلغ أثرا وأشد وطأ على نفوس التلاميذ من عشرات الشتائم و السياط التي كانت البضاعة الرائجة لدى غيره من المدرسين والمربين في ذلك الزمن.
كنا نشعر بحبه إيانا ونحس حرصه الشديد على تعليمنا وتهذيبنا، وكان كل واحد منا يظن أنه الأقرب والأكثر حظوة عند الأستاذ، وكنت كما هو حال زملائي أرى أن لدي مكانة خاصة عنده، فكان يعاملني - رحمة الله عليه- معاملة خاصة، ومما أذكره بهذا الشأن مما يستطرف أنني كنت ممن تنتابه هيستيريا الضحك (مُوطسْ) فلا أملك نفسي في المواقف المضحكة مهما كانت الظروف وقد أستمِر في ذلك حتى تنهمر مني الدموع، فكان يقول دعوه فهذا "موطس" أهل امّدّن (أسرة من حينا معروفة)، وربما شاركني في الضحك قائلا دعوه فأنا وهو أخوالنا أهل امّدن ولانستطيع مقاومة الضحك ، في حين يُعاقَب غيري على مثل ذلك بالكشف عن أسنانه ومقارنته بالكِباش فيقال هذا "اثْن" أو هذا "ارْباعْ" أوغيرها من أسنان الضأن..
من دروس الدنبجه التي لا تُنسى هذه الأبيات التي رَوى لنا أن أهل الكوفة كانوا يقولون أن من لا يحفظها ناقص المروءة، وهي لأيمن بن خريم بن فاتك الأسدي:
وصهباءَ جرجانيّـــة لم يطـــف بهـا ××× حَنِيف ولم تَنغرْ بها ساعة قِـــــدْرُ
ولم يحضر القُس المهيـــنِم نارهـــا ××× طروقا ولم يشهدْ على طبخها حَبْر
أتاني بها يحيى وقـــد نمت نومـــة ××× وقد غابت الشعرى وقد جنح النسر
فقلت اغتبقها أو لغيــــريَ فاسقهــا ××× فما أنا بعد الشيب ويبك والخمــــرُ
تعففت عنها في العصور التي مضت ××× فكيف التصابي بعدما كلأ العمـــر
إذا المرء وفَّى الأربعين ولم يكـــــن ××× لـــه دون ما يأتي حياء ولا ســتْـر
فدعه ولا تنفسْ علية التي ارتضى ××× وإن جــــر أسباب الحياة له الدهــر.
ترك الدنبجه مؤلفات كثيرة شملت أهم الفنون المتداولة، نذكر منها:
1- المقرب المبسوط في رسم القرآن وضبطه، شرحه ابنه الدكتور أحمد محمود.
2- واضح البرهان في تراجم أشياخي في القرآن، حقّقه ابنُ أخيه الأستاذ زين العابدين بن المصطفى.
3- رسالة في حكم الياء المكررة المتطرفة في القرآن
4- نظم التوسل بسور القرآن
5- مبحث في صلاة الجمعة
6- سراج البحوث شرح نظم القاضي محمدن بن محمذن فال بن أحمدو فال علي البعوث
7- الدنبجه بن معاوية والمستجدات العصرية في ثبوت الأهلة - دراسة وتحقيق- إعداد الأستاذ إسحاق ولد سيدي
8- القول المفيد في مسألة العبيد
9- فتاوى ونوازل فقهية
10- خطب جمعة
11- نقلة في الأصول
12- نظم الأدعية
13- نظم في المعية
14- نقلة حول التصوف
15- نظم في أسماء الطلحات وأنسابهم والقرابات
16- الموجز في أنساب حلة الأربعين جوادا
17- تاريخ أعيان القبائل
18- مبحث في النحو في حاشية ألفية بن مالك
19- علم العروض
20- شرح ديوان غيلان ذي الرمة
21- شرح المقصور والممدود بالتعاون مع العلامة التاه بن يحظيه
22- شرح طائية المتنخل اليشكري
23- ديوان شعري، حققه سبطه الدكتور محمد (آبَّ) بن محمد فال بن القاضي
24- تعريب أسماء الأشجار المحلية
25- مبحث في مطالع الفلك.
رحم الله شيخنا وأستاذنا الدنبجه وجزاه عنا وعن تلامذته وعن المسلمين جميعا أحسن الجزاء.