جانب من متابعاتنا الإخبارية حول «إكسبو 2020 دبي»، ويتناول هذه المرة مشاركةَ سوريا في الحدث التاريخي الأضخم والأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا، وهي مشاركة تركزت بالأساس على بيان الأصالة التاريخية لسوريا وثرائها الثقافي وعمقها الحضاري.
-----------------------------
موطن الأبجدية الأولى في العالم
سوريا العَراقة
------------------------------
محمد المنى (دبي)
-----------------------------
يحدد الجناح السوري في "إكسبو 2020 دبي" رسالتَه والغرض من مشاركته، موضِّحاً أن الهدف منها أن يكون نافذةً لإظهار حضارة ثرية ساهمت في إرساء الأسس التي شكّلت بناء عالَمنا المعاصر، وتسعى للنهوض والارتقاء من جديد، مطالِبةً بمكانتها اللائقة في عالم اليوم. لقد كانت سوريا موطِناً للثورة الزراعية الأولى في العالم، وعلى سواحلها وُلِدت أولُ أبجدية في تاريخ البشرية، كما قامت بدور حلقة الوصل بين أجزاء العالم وعملت على تكثيف ترابطاته التجارية والثقافية. وباختصار فإن ما يريده الجناح السوري هو أن يعْرض لزوار إكسبو دبي قصةَ الحضارة السورية القديمة، وكيف كان السوريون أول مَن جسَّد فكرةَ «تواصل العقول وصنع المستقبل»، وهو ما يعني أن التواصل مع العالم في إكسبو 2020 دبي يمثل خطوةً كبرى نحو بناء مستقبل البشرية معاً.
ويتساءل الجناح في أحد الملصقات عنده مدخله: هل تعرف أبجديتَك حقَّ المعرفة؟ ويعرض لزواره نسخةً طبق الأصل من أول أبجدية مكتوبة في العالم. إنها أبجدية الأوغاريت المسمارية الفريدة التي يعدها الباحثون حالياً أول أبجدية معروفة للبشر على وجه البسيطة، أو بالأحرى أم الأبجديات في العالم، وذلك بعد أن كشفتها بعثةُ للتنقيب الأثري في موقع أوغاريت على الساحل السوري عام 1928، وكانت على شكل مجموعة من الرُّقم (الألواح الطينية)، بلغ عددها خمسة آلاف لوح طيني تتوزع مضامينها بين القصائد الملحمية والنصوص الدينية والأوامر الإدارية والقواعد القانونية والعقود التجارية. وقد استخدمت أبجديةُ الأوغاريت ثلاثين حرفاً بين ساكن ومتحرك، بدلاً من مئات الرموز التي قامت عليها الكتابات المسمارية الأخرى، مما جعل الكتابة الأوغاريتية أسهل وأكثر مرونةً لإنجاز التعاملات اليومية. لذلك فُتن السوريون القدماء بهذه اللغة، فكتبوا بها كل شيء تقريباً، من يوميات القصور إلى الصلوات والطقوس الدينية، مروراً بدفاتر الحسابات وسجلات المخازن، علاوةً على النصوص القانونية والرسائل الدبلوماسية والنتاجات الشعرية والقصصية. وهو ما أشارت إلى بوارده المبكرة الرُّقمُ الطينية المسمارية التي عَثَر عليها الباحثون ضمن آثار مملكتي إيبلا وماري المتنافستين في عصرهما قبل العصر الأوغاريتي بحوالي ألف عام.
ومن أوغاريت أيضاً جاءت الألحان والأعمال الموسيقية، وكذلك من مملكة ماري حيث تشير نتائج البحوث الأثرية إلى ازدهار الموسيقى وإلى دورها في حياة المجتمع السوري الذي عرف مبكراً الآلات الوترية والإيقاعية، مثل القيثارة بأوتارها السبعة، بالإضافة إلى نصوص تتحدث عن الهيكل التنظيمي لفرق الموسيقيين في القصر الملكي. وبذلك يكون السوريون، في مملكة أوغاريت على الخصوص، قد كتبوا أقدم تدوين موسيقي تم اكتشافه حتى الآن. ورغم أن الأبجدية الأوغاريتية لم يُكتَب لها الانتشار على نطاق جغرافي واسع، فإن مبادئها في التجريد والتبسيط ساعدت على خلق العديد من أنظمة الكتابة الأخرى، مثل الفينيقية والآرامية والعربية والعبرية واليونانية واللاتينية. ومن بعد الأوغاريتية جاءت الفينيقية ثم الآرامية التي أصبحت لغة الإدارة والدبلوماسية في الشرق القديم كله تقريباً، وذلك ابتداءً من القرن الخامس قبل الميلاد، واستمرت فعاليتُها في العصر الكلاسيكي اليوناني والروماني، لتصبح لغةَ التواصل العالمية والمراسلات التجارية والدبلوماسية، من سوريا إلى العراق ومصر وتركيا وأوروبا حتى روسيا والصين.. وظلت هي اللغة المعتمدة في كثير من المجالات والمعاملات، وقد تحدّث بها السيد المسيح ونشر بها رسالته للعالم. ومن الآرامية تولَّدت السريانية التي أثَّرت في العربية كما يتحدث بها السوريون اليوم، والتي بدورها نقلت كلماتٍ كثيرةً منها إلى باقي لغات العالم الأخرى. ولبيان الانتشار الذي حققته العربية، يعرض الجناح السوري لزواره مئات الكلمات العربية المستخدمة في العديد من لغات الشعوب والدول حالياً، ويسألهم: هل تجدون أياً من كلماتكم بينَها؟ والهدف هو التذكير بأننا جميعاً نملك قصة واحدة مشتركة، فيها من التشابه أكثر مما فيها من التباين.
ولسوريا المعاصرة قصة حب مع اللغة العربية، اللغة التي كانت في مرحلة من التاريخ (أواخر العصور الوسطى وبدايات العصور الحديثة) لغةَ تدريس الطب والعلوم والفلسفة في الجامعات الغربية، لكن جامعات العالم العربي في عصرنا الحديث اعتمدت بدلاً منها اللغاتِ الأجنبيةَ (خاصةً الإنجليزية والفرنسية) كلغات لتدريس العلوم والطب والهندسة، وكانت سوريا الاستثناء الوحيد من القاعدة العربية في هذا المجال. وبتجربتها هذه ساهمت سوريا في ترسيخ الثقة لدى قطاع واسع من الناطقين بلغة الضاد في لغتهم. وهذا علاوةً على جهود موازية أخرى (إعلامية وثقافية) سعت من خلالها سوريا إلى بيان مرونة اللغة العربية وأصالتها وقدرتها على التأثير والانتشار عالمياً.. وهو ما يؤكد عليه جناحها في إكسبو 2020 دبي حين يتطرق إلى الجذور العربية لآلاف الكلمات في اللغات الأجنبية الأخرى.
بيد أن سوريا القديمة لم تكن مجردَ أبجدية لغوية للكتابة أو مجرد نتاج موسيقي للاستمتاع، وإنما كانت كذلك حضارةً مزدهرةً وزاخرةً بالنشاط التجاري والزراعي والعلمي على اختلاف مجالاته. فقد ظهرت في سوريا مجتمعات زراعية مبكرة تطورت عبر مراحل متتابعة أعقبت التحول من مرحلة الصيد والالتقاط إلى مرحلة الاستقرار والإنتاج المستدام ثم صناعة الفخار. ووفقاً لنتائج الحفريات الأثرية، فقد طوَّرت الجماعات التي سكنت مواقع متعددة من سوريا في مطلع الألفية الرابعة قبل الميلاد طرقاً مبتكرةً لقياس وحساب وتبادل فائض الإنتاج الزراعي من خلال أشكال طينية متنوعة، مما ساعد على خلق السجلات قبل ظهور الكتابة المسمارية وتطورها في أشكالها اللاحقة، مما أسس لبروز اقتصاد العصر البرونزي وما تمخض عنه من منجزات حضارية وإنسانية كانت لها مكانتها العظيمة في تاريخ البشرية.
وفي سياق التطور الحضاري السوري العام ظهرت مملكة إيبلا في الألفية الثالثة قبل الميلاد كمركز تجاري يصل بين الغرب والشرق، وتطورت فيها اللغة لتواكب احتياجات المجتمع الذي تحول من الرعي والزراعة البسيطة إلى إقامة اقتصاد زراعي وتجاري معقد، حيث تُظهِر الألواحُ المسماريةُ في إيبلا أهميةَ الدور الذي لعبته سوريا في نشوء تفاعلات اقتصادية وتجارية مزدهرة مع مصر والعراق وكثير من مناطق آسيا وأوروبا.
وكان اكتشاف مملكة إيبلا أواخر ستينيات القرن الماضي، في محافظة أدلب السورية، حدثاً مهماً في تاريخ سوريا الحديث جعلها تحتل مركزاً حضارياً متقدماً في الشرق الأدنى، جنباً إلى جنب مع بلاد الرافدين وحضارتها السومرية ووادي النيل وأهراماته وعصور أُسَره الملكية المختلفة.
ومن بعد إيبلا جاءت أوغاريت كحلقة وصل أخرى للتجارة الدولية خلال الألفية الثانية قبل الميلاد، مما جعل سوريا مجدداً المكان المثالي لاختراع وتطوير أبجدية مبسطة، وذلك حين تأسست هذه المملكة في الشمال السوري على ساحل البحر الأبيض المتوسط كحاضرة اقتصادية وثقافية متعددة ومنفتحة ومزدهرة وذات لغة مكتوبة.
وفيما بعد أصبحت دمشق، وهي أقدم مدينة في العالم على الإطلاق (عمرها أحد عشر ألف عام) عاصمةً للمالك الآرامية المتتالية، وظلت مدينةً مأهولةً بالسكان والأعمال والأنشطة على اختلافها، وتعاقبت عليها دول وحضارات كبرى أثْرت العالمَ وأغنت تاريخَه، لاسيما بعد أن شكّلت حلقةَ وصل بين الشرق والغرب منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. ثم أصبحت المركز السياسي والاقتصادي والثقافي للخلافة الأموية. ومنذئذ أضحت اللغة العربية لغةَ الدولة والعلم والإدارة بدلاً من الآرامية واليونانية. ثم من دمشق انتقلت اللغة العربية لتؤثر وتتأثر بلغات أمم العالم الأخرى، من الصين شرقاً إلى إسبانيا غرباً.
كانت سوريا مركزاً تجارياً مزدهراً في العصور القديمة، ثم استمرت في لعب دور مركزي خلال العصور الوسطى وصولاً إلى العصور الحديثة ثم وقتنا الحالي، من خلال حاضرتي التجارة والصناعة فيها، أي دمشق وحلب، لؤلؤتي الاقتصاد السوري منذ القدم وحتى الآن، والمنطلق في صناعة مستقبل سوريا الحالية، والممر الحتمي لكل صنّاع المستقبل، من منظمات وأفراد وشركات ورواد أعمال.. ممن يطمحون للاستفادة من الفرص الاقتصادية المتوفرة في سوريا، بإمكانياتها البشرية والمادية المتنوعة والوفيرة.
وفي ختام جولته على حقب التاريخ السوري ومراحل ازدهاره الاقتصادي والتجاري والزراعي، يجد الزائرُ لجناح سوريا في إكسبو 2020 دبي أمامَه ملصقين أحدهما بعنوان «لنعمل معاً»، وثانيهما تحت عنوان «معاً ننمو»، قبل أن يختم بعشرات اللوحات الفنية لفنانين سوريين يجسدون فيها نظرتَهم لأنفسهم ولإكسبو دبي وما يأملونه منه، علاوةً على 1500 لوح خشبي (تحاكي الرُّقُم الطينية للمسمارية الأوغاريتية القديمة)، وقد وقّعها مثقفون سوريون يقيمون في مناطق مختلفة من العالم، وضمَّنوها أمانيهم لسوريا ومستقبلها المنتظر كاستمرار لماضيها، بوصفها دولة صاحبة تاريخ عريق وباعتبارها موطناً لأقدم أبجدية في العالَم بأسره.