--------------------
كتب: د. السيد ولد اباه
في ابريل 1988 بادرني "محمد أركون" في لقاء بتونس بالقول: "ما دمت من موريتانيا ,لا بد أنك تعرف محمد ولد مولود، فما هي آخر أخباره؟". أجبت المفكر الجزائري الأشهر بما عندي من أخبار قليلة عن الرجل الذي كان يعيش أوانها في قرية "عين السلامة" الهادئة لا يبرحها منذ حكم عليه النظام العسكري سنة 1981 بالإقامة الجبرية عقوبة لجريمة قرابته النسبية من الرئيس "المختار ولد داداه".
استمرأ محمد العيش في القرية الصغيرة بعد أن زالت دواعي الإقامة القسرية، وهو الرجل الذي جال في كل بلاد الدنيا منذ خرج من مضارب قبيلته فتى يافعا في بداية أربعينيات القرن الماضي، طالبا متألقا في الجامعات الفرنسية.
"وضع محمد انفه في كل شيء"، كما يحلو لعبد الودود ولد الشيخ أن يقول عنه بلغة الاستطراف والإعجاب. درس الطب والقانون والإدارة، وتعلم عددا من اللغات الحديثة والقديمة، وصحب كبار المستشرقين، واندمج بسهولة في المجتمع الباريسي المخملي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
بيد أن التاريخ ظل محور اهتمامه ومشغله الرئيسي. وعلى الرغم من تقلده وظائف إدارية ودبلوماسية سامية في سنوات الاستقلال الأولى، إلا أن المسؤولية لم تنجح في استمالته عن هواه الوحيد.
ذكر لي المرحوم أنه عندما عين في بداية الستينيات واليا على دائرة الحوض، صرف جل وقته على جمع الروايات التاريخية والتقاليد الشفهية عن هذه المنطقة، وربطته علاقة وطيدة بأعلامها وعلمائها.
وعندما عين سفيرا في تونس، كانت إقامته في مكتبة المخطوطات بدار الكتب الوطنية أطول من مكثه في مكتبه بالسفارة، وكانت المهمة الأولى التي حرص عليها هي تتبع أثر كتاب "الصيرفي" العمدة في أخبار المرابطين في الصحراء من خلال اقتفاء آثار أسرة تونسية ذكر أنها كانت تقتني النسخة الوحيدة من الكتاب في مطلع القرن المنصرم ولم يصل محمد إلى أي نتيجة بعد أن قادته رحلته إلى قرى الجنوب التونسي والأرياف الليبية. ولما سأله الرئيس "المختار ولد داداه" عن التقارير الإخبارية التي يفترض من السفير بعثها لحكومته رد عليه بالقول :"الأخبار كلها موجودة في صحيفة لموند".
لم يمكث "محمد الشنافي" (الاسم الذي اختاره لنفسه اعتزازا بصداقته للراوية والحكيم محمد شنوف) طويلا في العمل الحكومي الذي اعتبر أنه لم يخلق له، فكانت آخر مهمة رسمية له هي تمثيل موريتانيا في نزاع الصحراء في محكمة العدل بلاهاي .وقد حدثني الدبلوماسي المتميز المرحوم مولاي الحسن عن مداخلات الشنافي التي بهرت الجميع بعمقها وشموليتها .
اختفى محمد عن الأنظار منذ منتصف السبعينيات، عاكفا على أبحاثه التاريخية، مقيما جل وقته في "فندق النواب" القريب من مقر البنك المركزي، مع أسفار متكررة عديدة إلى اليمن بصفته من أبرز المختصين الدوليين في النقوش واللغة اليمنية القديمة. وقد فهمت من كلامه خلال لقاء صباحي جميل قبل سنتين، صحبة العلامة الجليل الشيخ عبد الله بن بيه حفظه الله، أنه ساهم في اكتشاف وفك طلاسم المخطوطات الاعتزالية التي عثر عليها في اليمن فسدت ثغرة كبرى في الدراسات الكلامية حول هذه الفرقة الإسلامية الكبيرة.
ومع أن جل الباحثين الموريتانيين والأجانب في تاريخ غرب الصحراء تتلمذوا على الفقيد ونهلوا من علمه الغزير، إلا أن ولد مولود لم يكن يعطي أهمية كبرى للتأليف، لا عجزا أو تهاونا، فالرجل متين الأسلوب ورشيق العبارة باللغتين العربية والفرنسية، وإنما هو موقف يفسر بالانسجام مع ميله المثير للإتقان ونزعته الموضوعية الرصينة وقلقه المعرفي الذي لا حد له. ويقول المقربون منه الذين لازموه إنه مزق آلاف الصفحات من مؤلفاته بعد مراجعتها، ويذكرون له عملا مرقونا نادر الأهمية يتطلع الباحثون لإخراجه للناس بعد رحيله.
ولقد أحسن صنعا الأخوة في مركز أبحاث غرب الصحراء بتنظيمهم خلال السنوات الماضية عدة حلقات مسجلة من شهادات الرجل ضمنها جملة من أفكاره ونظرياته العلمية، لا شك أنها مادة ثمينة تستحق المحافظة وجيد الاستخدام.
كان أكثر ما يقلق محمد ولد مولود في سنوات حياته الأخيرة هو مسار التأزم المتسارع الذي تشهده منطقة غرب الصحراء في أطرافها المشتعلة وحدودها الملتهبة، متابعا في الأشهر الأخيرة المأساة الازوادية التي هو أدرى الناس بجذورها البعيدة وخلفياتها التاريخية والمجتمعية.
رحم الله محمد ولد مولود ولد داداه
وإنا لله وانا إليه راجعون