من مسلمات الحياة؛ أن البلايا تجلي معادن الرجال، ليس فقط من حيث أنها تكشف معدن المبتلى بإمتحانه، وإمتحان صبره، وإنما تكشف له هو معادنَ الآخرين من حوله، وذلك حين يكون في وضع يحتاج فيه لمساعدة غيره، ولو في غير الماديات.
ليس لضعفٕ في العقل، ولا لنقص في التكوين، ولا لغير ذلك من المعوقات طبعا، وليس لأنه صاحب جريرة قلاه لأجلها الأقربون، ولكن في ذات الوقت قد يجد المرء نفسه في وضعٍ يكون فيه كما لو كانت الطبيعة كلها قد تحالفت ضده، أو أنها تحاربه، وكل الأشياء من حوله في تمنُّعٍ، حيث لا تستجيبُ له؛ إذ ينادي فلا يُسمع، ويغرس الأغراس فلا تنبت، ويسعى إلى الغايات النبيلة فلا يبلغها، وهو في ذلك كأنما الأرض تسير أمامه، فلا هدفاً يبلغ ولا غاية جُلَّا يدرك.
ليس عيبا في الخَلق قطعاً ولا في الخُلق مطلقاً، ولا هو عيب في الفكر إن يسعى المرء إلى حقوقه، حتى ولو لم يبلغها، كما لا تكون منقصة في حقه إذا طلبها ولم يعطَها، بل قد يستضعف صاحب الحق ابتلاءً، ويهان ظلماً وعدواناً، فقد سجن يوسفُ الصديق حين رفض الوقوع في الفواحش، وألقي ابراهيم في النّار حين رفض الضلال وألغىَ، وقُتِل نبيّ الله يحيى عربوناً لحبٍ ممنوعٍ، وقد اتهم رسولنا صلى الله عليه وسلم بالكذب، والشعر والسحر، وهو المعصوم، وبالغ قومه في أذيته، فسلطوا عليه سفهاءهم حتى أدموا قدماه الشريفتان، صلى الله عليه وسلم، فهل كان ذلك نقصاً أم تمحيصاً. والجواب طبعا هو؛ أنه كان تمحيصاً، إذ أنه منزه عن النّقص، قال الله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) صدق الله العظيم.
لا أقول إن صادقاً شريفاً قد ضُيِّع، أو أضاعه قومه، إنما أقول: درس جديد من دروس الحياة الكثير والمثيرة، فإن طالت به الحياة قد ينفعُ الدّرْسُ، وإن قَصُرت فقد وعى وسيعي عنه الجميع؛ عزة المؤمن في الحق، وصبره على الابتلاء.
آه، آه، آه، ثم؛ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وحسبي الله ونعم الوكيل.
تأملات عاطل. / ابي محفوظ