الطيّب ولد العروسي*
عُرف المُبدع الموريتانيّ بدّي ولد ابنو المُرابطيّ بتعدُّديّة نِتاجه الفكريّ والإبداعيّ، حيث بدأ يَكتب الشّعر، وهو في سنٍّ مبكّرة، ثمّ كَتب الرواية والنقد الاجتماعيّ والسياسيّ، فضلاً عن كِتابته نصّ التفكُّر الفلسفيّ؛ الأمر الذي جَعل النقّادَ والقرّاءَ يهتمّون بأعماله التي يتّفق أغلبهم على غنى أسئلتها وشجاعة صاحبها، قَولاً ومَوقفاً ورؤيةً مُتجاوزة. وبدّي المُرابطيّ معروفٌ أيضاً بإلمامه بلغاتٍ حيّة عدّة: الفرنسيّة والإنكليزيّة والإسبانيّة، وهو قارئٌ مُلهِمٌ لمركزيّات التراثَيْن العربيّ والغربيّ.
أبحاثه الأخيرة التي توزّعت في مجالاتٍ فكريّة وأدبيّة عدّة، صَدرت العام الماضي عن "المركز الثقافي للكِتاب"ـ وهي دار نشر مقرّها بيروت والدار البيضاء، موزّعةً في خمسة عشر كِتاباً بعضها بالعربيّة وبعضها بالفرنسيّة. فبالفرنسيّة تمحورت كُتبه الثلاثة حول موضوعاتٍ إسلاميّة، وبخاصّة في فلسفة الفقه الإسلامي، في حين توزَّعت الكُتب الأخرى بين بحوثٍ في السياسة "تأمّلات في العقل السياسي الكومبرادوري"، الذي حلَّل فيه الأوضاع السياسيّة/ الاقتصاديّة في موريتانيا، وأخرى في الأدب ("وهج المعنى والمنفى"، "فلسفة الشعر"، "أودية العطش"، "التكفير والتفكير") واللّغة ("هل تعيش العربيّة آخر مَراحلها كلغة حيّة؟") والشعر، حيث انضوَتْ قصائدُه تحت ستّة عناوين كبرى: "مزامير الوجع"، "نشيد الهزيع"، "أسفار العشق والموت"، "اللّاهجائيّة"، "رسالة الدموع"، و"قصيدة الزمن والدمّ".
وُلد بدّي المُرابطي في موريتانيا في العام 1970. مَارَسَ الصحافة وهو طالِب في الثانويّة. كما بدأ مبكّراً العمل السياسي وانخرَط في بعض الصراعات الجريئة مع السلطة، الأمر الذي أودى به إلى السجن، وقد جَعَلَ من "فسحة السجن" ورشةً للعمل الإبداعي المُتواصل وخَرَجَ منها بدواوين شعريّة عدّة، وكِتاباتٍ روائيّة ومسرحيّة ومقالاتٍ أدبيّة وأخرى فكريّة وسياسيّة.
ولا غروَ، فهو، وكما يتّفق أغلب مَن اهتمّوا بأعماله، ظاهرةٌ إبداعيّةٌ مُلفتة، ولاسيّما منذ أن أَصدر ديوانه الأوّل: "يموت المَوت" في نواكشوط عام 1988، ثمّ واصَلَ مَسيرته التي أَثارت انتباهَ مجموعةٍ من الأساتذة والباحثين المُختصّين في الرواية والشعر الذين أنجزوا حوله كِتاباً جماعيّاً جَمَعَ مقالاتِه وقام بتنسيقها الدكتور عبد الستّار الجامعي. وقد وَرَدَ هذا العمل الجماعيّ تحت عنوان: "بدّي المُرابطي والإسراء إلى مَساكِن الضباب: قراءات في أشعاره وقصصه"، وصَدر في تونس عن منشورات مجمّع الأطرش، وهو يقع في حوالى 150 صفحة من الحجْم الكبير. ويَعتبر مُقدّم الكِتاب د. أصيل الشابي "أنّ نصوص بدّي المُرابطي، بما في ذلك مقالاته، مُراهنة على إعادة النَّظر في الحاضر والماضي معاً، ذلك أنّ تفكيك التسلّط السياسي وما يؤول إليه من عسف وموت وفناء يستحيل في غياب مُراجَعة الماضي، فينخرط القول، على أساسٍ من هذا، في مفهوم الكتابة بما هي حريّة تتجاوز كلّ تصنيف وتجنيس وتقعيد". وهذا الرأي يتّفق عليه كثيرون ممَّن تقرَّبوا أو اهتمّوا بأعمال بدّي المُرابطي.
أمّا الدكتور الشيخ ولد سيدي عبد الله، فهو يؤكّد، في بحثه: "تقنيّة "الاستدعاء" عند الشاعر بدّي المُرابطي"، أنّ ديوانه هو بمثابة "الإشراقات الأولى للنشر ومُصافَحة القارئ الموريتاني، وهو قارئ ذكي ولكنّه عصيّ على الغواية التي بشّر بها بدّي وجيله من الشعراء المُعاصرين. كان القارئ الموريتاني رافضاً لكلّ بِناءٍ شعري خارجٍ على الأُطر والأشكال الخليليّة المَعهودة، فلم تؤثّر فيه مَوجاتُ المدّ الشعري المَشرقي ولا المَناهج التربويّة التي اعتبرت القصيدة الحرّة جزءاً منها". وفي السياق نفسه، يُشير الدكتور أصيل الشابي في بحثه "الغجريّ في سفار العشق والموت للشاعر الموريتاني بدّي المُرابطي"، إلى أنّ الشاعر سعى إلى "صوغ رؤية مُنتفضة لا تتأثّر بالسياق السياسي والاجتماعي بقدر ما تسعى إلى التأثير فيه، انطلاقاً من التعويل على الأدوات الشعريّة وتحويل الهواجس الخارجيّة إلى مَراجِع شعريّة داخليّة تُلهِم الذات وتُعلي المبدأ الإنساني وتتعالى عن المُباشرة يُجسّدها هذا الغجري ويحمل على جسدَيه المادّي والنفسي أمارتها المُرّة".
إلى ذلك، فلقد قدَّمَ الأستاذُ لمجد بن رمضان مُساهَمةً بعنوان: "الرؤية الفنّيّة ومَقاصدها لدى بدّي المُرابطي: كِتاب "فلسفة الشّعر" نموذجاً"، حيث بيَّن فيه اعتراضَ الشاعر "على المفهوم السائد للحداثة والتحديث في الأدب من خلال قراءته لما جرى في عصر النهضة العربيّة. فهو يرى أنّ نموذج الإبداع في ذلك الزمن لم يُحقّق قفزةً نوعيّة في النهوض بالأدب والفكر عموماً عكس التصوّر السائد"، ثمّ يختم بحثه مؤكّداً "وَقَفْنا في هذا المقال على الرؤية الفنيّة ومَقاصدها لدى شاعر من أهمّ الشعراء العرب المُعاصرين. وتَبيَّنَّا من خلال كِتابه "فلسفة الشعر" توجّهاته التحديثيّة في الأدب والفكر عموماً. فتفكير الرجل في الظاهرة الفنيّة لم يكُن بمَعزلٍ عن تفكيره في القضايا الكبرى التي تشغل عموم المفكّرين وكِبار المُثقّفين. وقد كان الكِتاب، أي فلسفة الشعر، في الآن نفسه شهادة على العصر وبياناً يُعلن عن أفكارٍ مُضادّة للسائد والمألوف. ونعتقد أنّ صدوره في وقتنا الرّاهن له أهميّة كبيرة لأنّ الأُفق التاريخي يتطلّب مثل هذا النمط من التأليف الذي يُبدِّد حيرة القارئ ".
أمّا الدكتورة دلال وشن فقدَّمت قراءةً بعنوان: "طبقات المَعنى في كِتاب "وهْج المعنى والمنفى" لبدّي المُرابطي"، وهي ترى أنّ كِتاب "وهج المعنى والمبنى" لبدّي المُرابطي "كتابٌ كثيفُ الدلالةِ غزيرُ المعاني للدرجة التي لا يسعنا فيها المقال لذكرها جميعاً فاكتفينا بنماذج تُبيِّن ما أَردنا التنبيه إليه. فلقد أَفلح الكاتب بكفاءته اللّغويّة وبراعته الشعريّة في وضْعِنا - بعَدِّنا قرّاءً للمؤلِّف ومُتلقّين - بالإطار العامّ الذي جمعه بصديقه محمّد ولد عبدي حتّى أنّنا نستطيع أن نستشفَّ كلّ الموضوعات وكلّ الهموم والقضايا التي جمعتهما". هذا وقد قدَّمت الدكتورة فاطمة مرغيش بحثاً بعنوان: "الرؤية العَدميّة في ديوان "نشيد الهزيع لبدّي المُرابطي"، وَقَفَتْ فيه على مَلامح رؤية الشاعر الشعريّة وآهاته وإرهاصاته، تقول: "لقد كان الخروج إلى جماليّة النصّ في ديوان "نشيد الهزيع"، خروجاً إلى تجربةٍ شعريّة مُنبثِقة من رؤيا خاصّة مُرتكِنة إلى رؤية عدميّة بنّاءة، جَعلت المُتلقّي يلهث وراء صرخة الشاعر وانهماره على البياض الذي حوَّله إلى كَونٍ حَيّ ينطق بالفجيعة". وهذا ما يشرحه، بعد ذلك، الدكتور الذهبي اليوسفي في بحثه الموسوم "مِحْنَةُ الـذّات فـــي "قصيــدة الزّمـن والـدّم" لبدّي المُرابطي"، حيث يخلص إلى القول: "إنّ الذّات الشاعرة تَصنع عالَماً مُتحرِّكاً، مُتبدِّلاً أبداً يكشف رؤية مخصوصة للعالَم/ الوجود. ثمّ إنّ الرؤية المَخصوصة هذه، تتشكَّل بواسطة حقول مَعرفيّة مُتعدّدة، تستعيد فيها الذّات صِلتها بهذا العالَم، لعلّ أبرزها العالَم القدسيّ المُتمثّل في المرجعيّة الدّينيّة التي تتعاود بضربٍ من التّكرار الذي يُحدِث إيقاعاً مخصوصاً: "يوسف... عقروا النّاقة، «/» هي الأرض لله يرثها مَن يشاء...".
من جانبٍ آخر، تؤكّد الباحثة أحلام معمري في بحثها "قراءة في ديوان: مَزامير الوجع للشاعر "بدّي المُرابطي" عُمقَ تجربة الشاعر التي ترى بأنّه "يحمل صرخة من رَحَمِ المُعاناة، وألماً من روح الإنسان، فكانت عاطفة الشاعر ومواجيده هي التي تُحرِّك قريحته، فتجعلُه يفرّ من واقعه إلى أعماقِ ذاته يُفتِّش فيها عن العزاء لأحزانه، فكانت الصورة التي يرسمها لنا للوطن سوداء مُتّشحة بالحزن والأسى.فلجأ إلى البياض والفراغات والتكرار الذي كان يستعذبه بكلّ ما كانت تحمله الألفاظ من معاني اليأس، فتلا علينا مَواجع مزامير الوجع التي تجعلك تتخيّل أنّ الشّاعر كان يُنشِد ولا يكتب مُستعذِباً ألمه المُقدَّس ليرفعه إلى مزامير داوود أو مهيار الدمشقي".
أمّا الدكتور العراقي منتظر حسن الحسني، فقد قدَّم قراءةً بعنوان: "بدِّي المرابطي ورحلة البحث عن منفى، وقفةٌ مع قصيدة الزمَن والدَّم"، حيث يؤكّد في بحثه أنّ الشّاعر منشغلٌ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في أعماله بتيمة الحنين "المتواشج مع الصعيد المُعبَّر عنه بالبحث عن تيهٍ في هذه الأرض التي حتَّمت على الشاعر العود إليها مراراً برؤية العارِف العابر للأزمان، فالمدينة هي ضحيّة تلك الأزمان التي تعاوَرت عليها تشييداً وهدماً، والحنين إليها يُشرِّع نوافذ من الرجاء ليس لها نهاية، يتحوَّل الحوار خلالها إلى صراع مع النَّفس المُكتوية بتردّي الماضي والحاضر، وليس للمُستقبل من سبيلٍ إلَّا بالرحيل عن هذه الأرض وإليها وصولاً إلى كينونة الهضاب".
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه القراءات المتنوّعة المُقدَّمة في هذا الكِتاب المرجعيّ حول المُبدع الموريتاني بدّي المُرابطي، تعتمد أساساً على نظريّات النقد الحديث في تحليل الخطاب، وذلك من قِبَلِ مُختصّين وأساتذة في تدريس العلوم الشعريّة، وهُم من بلدانٍ مُختلفة (تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا، العراق). وقد انطلقوا جميعهم من النصوص الشعريّة والنثريّة للشاعر مُحلّلين إيّاها بعيداً كلّ البعد عن المَدح والإطراء، أو أيضاً عن الهجاء أو النقد غير المُبرَّرَيْن. إلى ذلك، فهي أبحاث مُذيَّلة بمَراجِع عربيّة وغربيّة مُتنوّعة، كلاسيكيّة وحديثة، اعتمدها الباحثون والباحثات في مُعالَجةِ مَوضوعاتهم التي شكَّلت بحثاً مرجعيّاً حول عوالم المُبدع بدّي المُرابطي. نتمنّى أن يُواصل الدكتور عبد الستّار الجامعي الاهتمامَ بكتّابٍ وشعراء ومُبدعين عرب آخرين لمنْحِ الباحثين فرصةَ الولوجِ إلى أعمالهم، ولإغناء المَكتبة العربيّة بأبحاثٍ مُتميِّزة وثريّة.
*كاتب من الجزائر