منذ نحو الفين وخمسمائة عام ، وضع الفيلسوف اليوناني العظيم (أفلاطون ) واحدة من أهم نظرياته ونظريات علم السياسة بشكل عام ، وهي نظرية ( تحول الأنظمة وتعاقبها )وخلاصتها أن لكل نظام سياسي وجهين ، وجهه الحسن وذلك عندما يرتقي إلى أعلى درجاته ويتجلى في أجمل صوره ، وهو ما يحدث عند التطابق التام بين الفضائل والقيم التي يقوم عليها وبين مؤسساته التي تحركه وإنسانه الذي يديره ويخضع لمطالبه ، أما وجهه السيئ القبيح فيظهر عند اندحاره وتفسخهه وهو ما يحدث عندما يبدأ التناقض التام بين القيم والفضائل التي يدعيها والزعماء الذين يديرونه ، وكل نظام ، مهما كان نوعه ، يتحول بشكل غير محسوس إلى نقيضه ، فينقلب من وجهه الحسن إلى نوعه السيئ في الطريق إلى إنتاج نقيضه التام ، ويحدث ذلك أما بمرور الزمن وتهالك النظام أو عن طريق التآمر في غفلة الناس .
ومنذ أفلاطون ، وهو من وضع اشكال الحكم الرئيسية ، وإلى اليوم ، فإن أشكال الحكم لا تخرج عن ثلاثة ، هي حكم الفرد ( الموناركي ) وحكم الأقلية ( الأوليغارشي ) وحكم الشعب ( الديموقراطي) ، ولكل شكلٍ من هذه الأشكال وجهه الحسن والآخر السيئ ، والنظام السياسي مثله مثل المخلوقات ، يلد ويشب ويموت .
إن أشكال الحكم ، من حيث الحسن والسوء ، ترتبط بالقيم والفضائل التي تقوم عليها وليس بأشكال المؤسسات التي تبنيها ، وفضيلة حكم الفرد ، في نظر أفلاطون ، هي ( الدستورية) فإذا قام النظام على هذه الفضيلة ، فإنه يكون حكمًا صالحًا ، لكنه ينقلب إلى شكله البغيض عندما تكون غايته المجد الشخصي فيتحول إلى ( الطغيان) أما فضيلة حكم الأقلية فهي ( الشرف ) ويكون حكمًا صالحًا إذا تولته ( الأرستقراطية ) لكنه ينقلب إلى ( أوليغارشية فاسدة ) عندما يتولاه الأثرياء لتحقيق مصالحهم ، أما فضائل الديموقراطية فهي ( الحرية والمساواة والإعتدال ) وحين يتولاه الشعب المؤمن بهذه القيم فيكون حكمًا صالحًا ، لكن هذا النظام ينقلب إلى ( الغوغائية ) اذا فقد إعتداله وسيطر عليه ( الديماغوجيون ) وتولى زمامه سفلة القوم ، فيتحول الشعب نفسه إلى قطعان من الغوغاء ، فتنشأ ، كما يقول أفلاطون ، ( الديموقراطية المزخرفة ) تعجب الغوغاء مثل إعجاب الأطفال بالأثواب الزاهية الألوان ، وذلك هو النظام الذي يضع أسس الإستبداد ، فعلى جناح الديموقراطية المزخرف يصل المستبد حاملًا بين يديه مزاعم الخلاص .
إن للديموقراطية مناخها وشروطها ، وهي في نظر الفلاسفة والمفكرين المرموقين ، لا تقوم دون توفر هذه الشروط ، وأهمها ؛ تربية الناس جميعًا - وأولهم القادة والمسؤولين - على قيم الديموقراطية وفضائلها .
وفي معظم كتاباته ، كان أفلاطون يقول أن الديموقراطية لا تشيد إلا ( ببناء الانسان الديموقراطي ) ومن أجل هذه الغاية دبج كتاب ( الجمهورية ) وصب فيه منهج تربية المواطن على قيم الديموقراطية وفضائلها ، ودعا من بعده ( جان جاك روسو ) إلى خلق شعب من الملائكة للنهوض بالديموقراطية ، فهي ليست عملية سياسية بحتة تنشأ وتزدهر بمجرد بناء مؤسساتها الشكلية كالمجالس والجمعيات والأحزاب أو إتباع بعض مظاهرها كالإنتخاب ، بل هي عملية تاريخية كبرى متعددة الأبعاد الثقافية والتربوية والسياسية.
إن الديموقراطية ، في المقام الأول ، عملية حضارية وثقافية لا تنشأ ولا تزدهر إلا ّفي مناخ ثقافي خاص مفعم بالروح الوطنية العالية والإخلاص التام للوطن وشأنه العام ، أما عند سيطرة الغرائز والشهوات ، فإن النظام يغدو غوغائيًا مهما كانت أشكال الهياكل والمؤسسات.
ان للديموقراطية ، مثلها مثل الكائنات ، جسداً وروحاً، أما الجسد فهو الهياكل والمؤسسات ، أما الروح فهي القيم والإنسان ، وليس هناك أي معنى للأشكال عند هلاك الروح ، وعند ذلك ينحدر الجسد نحو التعفن والانحلال.
ولا تنشأ الديموقراطية على القيم الزائفة ولا ينهض بها الانسان ( المتفسخ ) الخارج من دورة الحضارة ، ومهما زخرفت مؤسساتها ، فإنها تتحول إلى نظام غوغائي بغيض حين يتولى زعامتها الديماغوجيين وسفلة القوم ، وبإسمها وفي ظل شعاراتها تساق الأوطان للمحن والكوارث.
وقد دلت تجارب التاريخ على أن أفضل الوصفات لصناعة الغوغائية ، هي بناء نظام ( برلماني ) ،وهناك مؤشر نادرًا ما يخطيء ، يثبت بأن إقامة هذا النظام في مجتمعات الهشاشة يخلق البيئة المناسبة للغوغائية ، ففي مثل هذا النظام ، تسهل المزايدات وتتكاثر المؤامرات وتلوح الفرص للتلاعب بعواطف الشعوب وتفتح الأبواب على مصاريعها للصفقات والرشوة والفساد.
ويخطئ من يظن أن الديموقراطية عملية سياسية سهلة ، تنشأ بقرار يتخذه فرد أو جماعة في لحظة حماس أو استجابة للضغوط الظرفية أو بدوافع التقليد والمحاكاه ، ففي مثل هذه الأحوال ، تطغى المظاهر على جوهر الديموقراطية وتغدو هذه المظاهر غاية عليا ، فالانتخاب وهو المظهر الأول للديموقراطية يتحول الى عنصر مدمر في ظل الغوغائية ، لأنه لا يؤدى إلى إختيار أفضل القادة ، بل إلى إختيار أكثر الديماغوجيين براعة في الخداع لخطف السلطة والمال والنفوذ .
إن الغوغائية هي الوجه الزائف للديموقراطية ، تلبس لباسها وتتخفى وراء شعاراتها ، وبينما تقوم الديموقراطية على الاعتدال والممارسة المسؤولة للحرية في ظل الدساتير المحكمة والمؤسسات الصلبة والقيادات الطاهرة والشعوب الواعية ، فإن الغوغائية تزدهر بالفوضى وغموض الدساتير وهشاشة المؤسسات وفساد الزعماء وغفلة الشعوب ، وبينما تقود الديموقراطية للحرية والاستقرار والتقدم ، فإن الغوغائية تصنع الكوارث والاستبداد.
إن أوطاننا العربية تقف اليوم في مفترق الطرق وعليها الإختيار بين الديموقراطية المنظمة والمسؤولة أو الغوغائية المدمرة ، وأمام هذه الأوطان تجارب عملية مريرة عن الديموقراطية الزائفة القائمة على المظاهر الخادعة ، فها هي بلاد يحكمها ويعذبها - بإسم الديموقراطية -زعماء الطوائف يتوارثونها ، جيلاً وراء جيل ، مثلما تتوارث التركات ويتولى شؤونها أثرياء القوم أسرة بعد أسرة وطبقة بعد طبقة ، يحكمونها بالمال لا بالموهبة وبالديماغوجية لا بالحكمة ، وهذه أخرى ؛ يحكمها بالديموقراطية الزائفة زعماء التطرف والارهاب وطغاة العقائد الفاسدة .
أما بلادنا فقد سيقت مبكرًا نحو الغوغائية المقيتة ، فمن وسط أهوال الزلازل قفزت الهوام والزواحف لتأكل الأخضر واليابس بإسم الديموقراطية وفي ظل وعودها ، وبواسطة النظام البرلماني الساذج اندفعت جموع الديماغوجيين والانتهازيين للسيطرة على هياكل الدولة ومقدرات الوطن ، فلم تكن هناك وصفة أكثر نجاحًا لبناء الغوغائية والديموقراطية الزائفة من تشييد نظام برلماني في مجتمع يعاني الانقسامات ويموج بالصراعات ، ففي مثل هذه المجتمعات ينشط الغوغاء لإستغلال المظاهر البراقة للبرلمانية وما تنطوي عليه من أطروحات نظرية جذابة ترضي العواطف وتخدع ، الى حين ، عامة الناس .
إن بلادنا في حاجة لبناء نظام سياسي يقوم على ديموقراطية حقيقية ومسؤولة تتسم بالواقعية والإعتدال تضمن التوازن بين الحرية والاستقرار.
وتتطلب هذه الديموقراطية القادة ورجال الدولة الكبار لغرس فضائل الديموقراطية في صلب الدساتير العصرية والمؤسسات المتينة لوضع البلاد في طريقها الصحيح .
وتتطلب الديموقراطية تصميم نظام سياسي يتسم بالواقعية ولا يلهث خلف الشعارات ، يلائم الشعب ويتجاوب مع ثقافته وتكوينه وأحواله وآماله .
وتتطلب الديموقراطية مرجعية شرعية تنبثق من إرادة الشعب ، تضبط إيقاع المؤسسات وتسهر على سلامة الوطن وتصون الدستور وتظهر الصلابة في ساعات الخطر الداهم .
وتتطلب الديموقراطية مصالحة سياسية راسخة تمحو الأحقاد و تضمد الجراح وتبعث الآمال وتحشد الجهود لبناء مستقبل مشرق .
وتتطلب الديموقراطية ، قبل كل ذلك ، شعباً مدركاً؛ يؤمن بالله ويعتز بالوطن ويعشق الحرية ويعرف الفواصل بين الديموقراطية والغوغائية!!
صحيفة الموقف الليبي -
القاهرة- 5 / 8 / 2021 م