الشيخوخةُ مرضٌ يُعالَج د. حسن الشريف*

 

 

هنالك توجُّهات متعدّدة في تفسير آليّات الشيخوخة أو الهَرَم مع تقدُّم العمر من الناحية البيولوجيّة، وربّما هنالك أكثر من تفسير لذلك. والتعرُّف إلى هذه الآليّات قد يُساعد في مُعالَجة الشيخوخة وتأخيرها، وبالتالي إطالة العمر، وتمديد فترة الحيويّة في الجسم الحيّ. والأهمّ في هذه التوجُّهات كلّها هو التعرُّف إلى ما إذا كان هنالك عامل واحد (جينيّ أو بيولوجيّ) يتسبَّب في هذه العمليّة أو – وهذا هو الأرجح – أن ّهنالك عوامل ومسبّبات كثيرة ومتنوّعة. وتشير معظم أبحاث الشيخوخة، حتّى تاريخه، إلى وجود عددٍ محدودٍ من هذه العوامل والمسبّبات الأساسيّة، ما يجعل احتمال التعرُّف عليها ومُعالجتها مُمكناً من الناحية العلميّة.

يبدو أنّ معظم الجينات التي تُسبِّب الشيخوخة تؤثِّر بشكلٍ مباشر على مسارات الكيمياء الحيويّة في الجسم الحيّ، مثل استهلاك الطّاقة ومقاومة الإجهاد وتنظيم ما يُسمّى بمَسار الإنسولين/ نروأندكرين Neuroendocrine.

ومن الظواهر البارزة في أبحاث آليّات الشيخوخة، تراكُم بروتينات مُتضعْضِعة، تلك التي لم يَعُد لها حاجة في العمليّات البيولوجيّة الطبيعيّة، وعادةً ما يجري تحطيمها بأنزيماتٍ تسمّى بروتياز؛ لكنّ تفاعُلاتٍ بيولوجيّة مُتداخِلة قد تحدّ من عمل هذه الأنزيمات وقدراتها مع تقدُّم العمر، ما يجعل هذه البروتينات المُضرّة تتراكم وتتسبّب بمزيدٍ من مظاهر الشيخوخة. من ذلك تراكُم البروتينات على جدران الأوعية الدمويّة والكبد وبعض المفاصل، ما يتسبَّب بضعف أدائها.

تكون عمليّة الشيخوخة على مستوى الخليّة أو على مستوى الكائن الحيّ بكامله، وتؤدّي إلى ترهُّلٍ في مختلف أعضاء الجسم وفي الجسم كلّه، كما تؤدّي في النهاية إلى الموت.

ويرى الكثيرون من علميّي الأحياء أنّ الشيخوخة قَدَرٌ حتميّ لكلّ الكائنات الحيّة. لكنّ البشريّة منذ القِدم تسعى باستمرار إلى مُواجَهة "هذا القَدَر" والتغلُّب عليه؛ وقد تبيَّن، منذ أواسط القرن العشرين، أنّ من المُمكن "تأخير" الشيخوخة بمُعالجاتٍ مُختلفة، وأنّ هنالك كائناتٍ حيّة قد تعمِّر آلاف السنين، وربّما مئات آلاف السنين. والآن ظَهرت نظريّة تقول إنّ الشيخوخة مرض، وكغيرها من الأمراض هنالك مجالٌ لمُعالَجة المرض، وبالتالي تأخير الشيخوخة وربّما الشفاء منها!

نظريّات الشيخوخة

هنالك أكثر من مائة نظريّة تُفسِّر الشيخوخة وطبيعتها وأسبابها. ولكن ليس هنالك نظريّة واحدة جامِعة في هذا الإطار. وكلّ هذه النظريّات تُشير إلى أنّه ليس من مُسبِّبٍ واحدٍ جينيّ أو بيولوجيّ للشيخوخة، إلّا أنّ معظمها تشير إلى التراكُم الكمّي للخَلل في الوظائف البيولوجيّة على مستوى الخليّة وعلى مستوى الجسم الحيّ ككلّ. لكنّ النظريّة الأكثر انتشاراً كانت نظريّة الجذور المُتفلِّتة أو الحرّة Free Radical التي تتسبَّب بانتشار شحنات كهربائيّة حرّة – من إلكترونات وأيونات – تؤدّي في حركتها المستمرّة إلى أضرارٍ في لولَبَيْ الجينات DNA، كما تؤدّي إلى تأكْسُد أنزيمات المتكوندريا Mitochondria. وقد انتشرت هذه النظريّة بشكلٍ واسع في أواخر القرن العشرين ونَشط باحثون كثيرون في تطوير مضادّات للأكسدة Antioxidant من دون الوصول إلى نتائج حاسمة، ثمّ أُهملت هذه النظريّة في أواخر القرن الماضي.

نظريّة المعلومات للشيخوخة

تفترض نظريّة المعلومات Information Theory للشيخوخة، لديفيد سنكلير David Sinclaire – وهي الأحدث – أنّ انخفاض فعاليّة جسم الإنسان (وأيّ كائنٍ حيّ) هو نتيجة انخفاض فعاليّة آليّة إصلاح خلل الخلايا الذي يتسبَّب به تراكُم أعطال الجينات على مستوى الخليّة. وتقترح نموذجاً من 4 مستويات حول العلّة والتأثير – Cause Effect – للتفاعُل بين العمليّات الفاعلة خلال فترة تقدُّم العُمر للمُتعضّيات Organisms عالية الانتظام ومتعدّدة الخلايا. وأهمّ العوامل التي تؤثِّر على طول العمر المتوقَّع في هذه النظريّة ترتبط بالأضرار الجينيّة التي تكون موجودة عند الولادة، ثمّ وتيرة تراكُمها مع تقدُّم العمر، يلي ذلك ضغوط البيئة الخارجيّة التي قد تزيد من هذه الأضرار.

تنطلق نظريّة المعلومات للشيخوخة من أنّ الخلايا الجذعيّةStem Cells تتمايز بعد الولادة إلى خلايا متخصّصة خلال نموّ الكائن الحيّ. وتنظم خلايا الجسم – الجذعيّة والمُتمايزة – ما يسمّى المعلومات فوق الجينيّة Epigenomic التي تُغلِّف الجينات. ويؤثِّر هذا التغليف في كيفيّة تعبير هذه الجينات عن وظائف مختلف الخلايا. وتنتج الشيخوخة من الأضرار المُتراكمة في المعلومات المتوافرة في الخلايا المُتمايزة فوق الجينيّة لمُختلف أعضاء الكائن الحيّ.

وقد أعطتْ طبيعةُ الكائنات الحيّة الخلايا قدراتٍ مستمرّة لإصلاح الأضرار، لكنْ قد تحدث أخطاء تتراكَم في دورة إصلاح الخلايا، ما يُترجَم في الخلايا المتخصِّصة التي تُصبح غير قادرة على تنفيذ وظائفها الأصليّة، كما لو أنّ هذه الخلايا قد "نسيت" وظيفتها السليمة؛ وفي "نظريّة المعلومات" هذا يعني "خسارة معلومات أساسيّة". ولإبطاء الشيخوخة البيولوجيّة يقترح سنكلير تطوير تمارين مناسبة لآليّات الإصلاح، بعد دراسة معمَّقة لهذه الآليّات. وفي نظريّاته يقول إنّ الخلايا تعمل من خلال صيغتَيْن: في الصيغة الأولى، وفي بيئة غنيّة بالمَوارد، تسعى الخليّة إلى تنمية ذاتها وإلى التوالُد. وفي الصيغة البديلة، في بيئة تندر فيها الموارد، تُخفِّف الخليّة من نموّها وتنشط عمليّات الحفاظ على الذّات والإصلاح. وهاتان الصيغتان، على ما يبدو، قديمتان قدم الحياة نفسها، وبالتي فإنّ آليّات السيطرة فيهما متشابهة ومنتشرة في كلّ الخلايا الحيّة. ويرى سنكلير أنّ تأخير الشيخوخة مرتبط بتنشيط آليّات الإصلاح، أو ما يسمّيه هورمسز Hormesis، أي الظاهرة البيولوجيّة التي تفضي بالتعرُّض الخفيف للتوكسين Toxin إلى نتائج مفيدة، كما في اللّقاحات.

وهنالك آليّات تُسهِم في الحفاظ على ذاكرة الخليّة لإصلاح ذاتها – وبالتالي لعدم فقدان هذه الذاكرة مع الزمن – مثل التمارين الرياضيّة والفكريّة وتخفيف الطعام والتعرُّض لحالاتٍ قصوى من البرد والحرارة، ما يُحفِّز جهاز ذاكرة الإصلاح في خلايا الجسم. وينصح سنكلير أيضاً بتناوُل بعض الجزيئات التي تُنشِّط آليّات لمدّ حياة الخلايا مثل: رسفراتول Resveratol في الصباح ومتفورمين Metformin في المساء. وهنالك جزيئات في النباتات والطحالب التي تكون لديها تأثيرات إيجابيّة في هذا الإطار، بخاصّة تلك التي تعيش في بيئاتٍ مُعادية. والفكرة في هذه الآليّة هي في جعْلِ نظام المناعة يتعرَّف على "الموادّ المؤذية" بشكلٍ ضعيف، ويتعلَّم كيف يُهملها ولا يحاربها. ومن باب السخرية يُمكن القول إنّ إطالة العمر تتطلَّب أن نجعلَ أجسامنا تعتقد أنّها تعيش في بيئاتٍ مُعادية صعبة، ما يتطلّب أن نفتعل أو نحاكي مثل تلك البيئات.

وفي نظريّة سنكلير، أنّ جزيئات الأبيجنوم Epigenome عندما تصلح ذاتها ترتكب، عن غير عمد، بعض الأخطاء، وهذه الأخطاء تظهر في تعبيرات الجينات في عملها. واكتشف وجود جزيئات ناظِمة قد تدفع بالأبيجنوم في أيٍّ من الاتّجاهَيْن (السيّئ والجيّد) للشيخوخة: وهذا هو الأساس في نظريّة سنكلير.

وتقول هذه النظريّة إنّ هنالك نوعَيْن من المعلومات المخزَّنة في الخلايا الحيّة، وهذان النوعان مُرمَّزان بشكلٍ مختلف تماماً، النوع الأوّل رقمي والنوع الثاني نظيري Analogue. والمعلومات الرقميّة مخزَّنة على قاعدةٍ رباعيّة وليس ثنائيّة – كما المعلومات الرقميّة في الحاسوب – تبعاً للحوامض الوراثيّة A,T,C,G Ademine, Thymine, Cytosine and Gnanime. وهذه المعلومات المُرمَّزة رقميّاً مُخزَّنة في جينات، وتبقى قويّة ومحفوظة بشكلٍ دقيق على امتداد الزمن وفي بيئات مُعادية. لكنّ هذه المعلومات قد تُفقد عن انتقالها بين الخلايا بالتوالُد.

دائرة الحفاظ على الحياة The Survival Circuit

على امتداد العمر، يكون الهَيكل الجيني مُعرَّضاً بشكلٍ دائم لأضرارٍ متعدّدة، بخاصّة عند انقسام الخلايا وانتقال المعلومات الجينيّة إلى الخلايا الجديدة. وهذا يُعرِّض هذا الهيكل لتكسُّرٍ متنوِّع للكروموزومات التي تُشكِّله، ما يزيد عن ترليونات الكسور في اليوم الواحد، بحسب تقدير العلميّين في هذا المجال. ويزداد هذا العدد في البيئات المُعادية بتأثير التفاعُلات الكيميائيّة والإشعاعات المتنوّعة، الطبيعيّة أو الاصطناعيّة، التي يتعرَّض لها الجسم الحيّ وخلاياه. لهذا طوَّرت الكائنات الحيّة، مبكّراً في تاريخ نشوء الحياة، قدراتٍ ذاتيّة لرصْد الأضرار التي تُصيب الهيكل الجيني، وعند ذلك تقوم الخليّة بإبطاء نموّها وصرْف كلّ الطاقة المُتوافرة فيها لإصلاح الخلل الجيني، قبل أن تعود إلى النشاط البيولوجي العادي. وهذا ما سُمّي دائرة الحفاظ على الحياة. ويبدو أنّ هذه القُدرات تتمثَّل في أنزيماتٍ متعدّدة تمّ الكشف عنها في العقود الأخيرة، وغيابها يُضعِف فاعليّة دائرة الحفاظ على الحياة ويُسرِّع عمليّة الشيخوخة والهَرَم.

وتقول نظريّة سنكلير إنّ كلّ الكائنات الحيّة تمتلك قدرات دائرة الحفاظ على الحياة. من ذلك امتلاكها لأنزيماتٍ محدَّدة، مثل الجين الوراثي B، الذي يمتلك وظيفة السيطرة على توالُد الخلايا ومنْع هذا التوالُد عند رصْد خَلَلٍ في الهيكل الجيني إلى حين إصلاح هذا الخَلَل. وتشير هذه النظريّة بشكلٍ خاصّ إلى بروتينات أسماها هستون Histone، وهي تشكِّل جزءاً مُهمّاً من هذه الدائرة وكأنّها مركز سيطرة لآليّات عملها. وتقوم هذه البروتينات (الهستون) بإرسال بروتينات إصلاح الأضرار في الهيكل الجيني، ثمّ تُعيدها إلى وظائفها العاديّة عند انتهائها من عمليّة الإصلاح. وخلال هذه الفترة يكون مكانها خالياً في العمليّات البيولوجيّة الطبيعيّة. وهذا ما يمنع توالُد الخلايا في فترة الإصلاح. لتعود الخليّة إلى التوالُد عند العودة إلى الحالة العاديّة بعودة هذه الأنزيمات إلى مراكزها. لكن، تقول النظريّة، قد يحصل، عند الزيادة الكبيرة في الأضرار والحاجة إلى إصلاحها، أن تضيع هذه الأنزيمات، الأبيجنوم، ولا تعود إلى موضعها الأصلي، ما يتسبَّب بوقْفِ عمليّات توالُد الخلايا وتسريع عمليّة الشيخوخة. وبالتالي تقول النظريّة إنّ "مُعالَجة" عمليّة الشيخوخة ترتبط بتنظيم دائرة الحفاظ على الحياة بحيث تبقى المعلومات المتوافرة في أنزيمات الأبيجنوم متوافرة دائماً، وقادرة على إعادة قدرات الخلايا على التوالُد والقيام بالعمليّات البيولوجيّة العاديّة.

أخيراً يقول سنكلير إنّ تجاربه مع خلايا الخميرة yeast ومع بعض الفئران في المُختبر، أَظهرت أنّ بعض المركّبات الكيميائيّة، مثل (NDA) Nicotinamide Adenine، نَجحت عند تناولها في تقوية القدرات الحياتيّة في الخلايا الحيّة وفي عكْسِ عمليّة الشيخوخة، حيث تجعل أنزيمات الأبيجنوم ثابتة أكثر.

هنالك مُعالجات متعدّدة لمظاهر الشيخوخة نَجحت في إطالة عُمر الإنسان من دون التخلُّص من قَدَرِ الشيخوخة. كما يَقترح سنكلير علاجاتٍ "ناجحة لمرض" الشيخوخة. وهو ما نعود إليه في مقالٍ لاحق.

*باحث ومُترجِم من لبنان