ذات ليلة فى السجن ....حديث حول ولدابريد الليل

بعد شهر كامل قضيناه فى غرف معزولة ،مسدودة النوافذ والأبواب، داخل إدارة أمن الدولة، لا علاقة لأي منا بالآخر،  يتبادل على حراستنا المشددة رجال لا يعرفهم منا أحد ، صم بكم  لا يردون ولو سألتهم ألف مرة ،يتركونك للهمس فى حديث موحش  مع  النفس بين أربعة جدران .تفترش  ما تجمع من حبيبات الرمل  وعلى السطح تتأمل خيوطا  من نسج العنكبوت.

......فى وهن من الليل،يبدأ  هرج ومرج  الحراس ،كلما أوعز إليهم مدير إدارة أمن الدولة بإحضارنا ..
 و  تبدأ أسئلة المحققين   .........
من دعا كم للمشاركة فى المؤتمر القومى الأول لمقاومة التطبيع المنعقد فى صنعاء ..؟ شاركتم فى لقاء سري مع قيادة  سياسية من الدولة الفلانية ..؟ هل هو  اللقاء الذى  كنتم تخططون فيه لقلب النظام...جمعتكم لقاءات متكررة مع رئيس الحزب الفلانى ...فما هي نواياكم من ذلك...؟  أسئلة غريبة  عجيبة كغرابة حراس تلك الزنازين النتنه التى أرهقنا كثيرا.......
 
...ويتقررأنه قبل يومين من عيد الفطر المبارك ، وبعد شهر كامل من الإعتقال والإخفاء القسرى عن الأهل والخلان ،أن يحال ملفنا إلى قصر العدالة، جئناه فى سيارات متوسطة.الحجم أسندت مهمة سيا قتها لجمع من  شرطة إدارة أمن الدولة.......
..،...بعد أسئلة روتينية من قاضى التحقيق ،أبلغنا كاتب الضبط أنه ستتم إحالتنا بعد قليل إلى السجن المدنى، لتبد أ رحلة أخرى........
 ......فى هذه المرة. حملتنا سيارات أخرى إلى مستقر جديد ،هو السجن المدنى أو السجن المركزى ...،، دخلناه ولأول مرة  قبيل صلاة الظهر ......
 
...استقبلنا حراس السجن عند بوابته الرئيسية ،ولما فتحو بوابته الحديدية الضخمة التى توجد وسطه ،فإذا بنا أمام صنف آخرمن البشر، لم يسبق أن شاهدنا ملامحه من قبل ،إنهم مجاميع من سجناء الحق العام، أثوابهم رثة ووجوههم مرهقة يفترشون الغبراء ويستظلون بأعرشة صغيرة متهاوية..، تراجعنا وامتنعنا عن ولوج البوابة الحديدية الضخمة وكانت حجتنا فى ذلك أننا سجناء رأي، ولن نقبل ومهما يكن ،أن يزج بنا  فى عنبر يغص بسجناء الحق العام..
..  كنت أصغر السجناء السياسيين  سنا لكنى كنت حينها  أتتمع ببنية قوية ،...حدث عراك بينى وبين حراس السجن، عندما حاولو إرغامنا على  الدخول ،وبينما نحن فى معمعان الرفض سقط أحد رفاقنامغشيا عليه ،لكنه فى الحقيقة إنما فكر وقدر مع بقية رفاقه  فى حيلة يضعون  بها حدًا لمعركة  البوابة ،  فوجدوهاالحيلة الأسهل لتعطيل عملية إرغامنا  على الدخول.....
 
...نودي لإدارة السجن على عجل ،وتم استدعاء الوالى الذى كان السجن تحت وصايته ، وكان وقتها هو  الإدارى. المتمرس السيد محمد ولد ارزيزيم  الذى أقنعنا بالدخول ووعد بتحسين ظروفنا  داخل السجن وأننا سننزل فى عنبر  مستقل  عن عنابر سجناء الحق. العام  ،وقد أنجز حرما وعد، لكنه وللأسف تمت إقالته فى اليوم  الموالى ،بفعل وشاية من أحد مرافقيه حين نقل عبارته  التى سجلها التاريخ له ،حين قال لنا:
مكانكم ليس السجن لكننا لسنا أصحاب القرار. موقعكم مكان آخر .طمأنتنا عباراته واستجبنا.لما دعانا إليه.
 
.....دخلنا العنبر رقم ٢.وهو عنبر خاص بالسجناء السياسيين ،لكن الممر إليه يكون عبر بوابة الحديد الرئيسية وعبر باحة سجناء الحق العام، وهم.فى أوضاع يرثى لها.....
 
......أخذ كل منا موقعه فى زنزانته  الجديدة التى لاتزيد على ثلاثة أمتار طولًا و مترين عرضا فى أكثرالحالات وفوق كل سرير سرير آخر... . .
.......
فى عنبرنا كان هناك بعض من المحكوم عليهم بالإعدام ،  وضعو فيه تأمينا لهم  ومن بينهم  من أمضى  العديد من السنوات ،حصل  بيننا شكل من أشكال الإحتكاك  بعد أول صلاة  جماعية.لنا فى العنبر أمها الصديق  والأستاذ عبد الله العتيق ولد اياهى.....
 
تتالت اللقاءات بفعل الفراغ وتنوعت القصص والأحاديث لاحقا  بمافيها قصص دخولهم  السجن  .
ذات ليلة  من  ليالى  السجن الموحشة ،دخل علينا عميد سجناء العنبر رقم2  وهو يعرض علينا  كأس شاي، مد يده للمخدة  ووضعها تحت مرفقه وبدأ يروى عن الداخلين قبلنا والخارجين من السجن خاصة من السيياسين .
...إلتفت إلي  بعد أن راق له المجلس فى ذلك الركن العتيق من تلك  الغرفة ذات المساحة الضيقة جدا..جدا... وأخذ  يروى قصصا مما احتفظت به ذاكرة الشجون والسجون  ،سكت  قليلا و هويجول يعينيه ذات الشمال وذات الجنوب، يتأمل جدران الغرفة  وكأن شيئا قد لفت نظره فى غرفتى ؛  وفى هنيهة خرق الصمت وأردف قائلا :
هل تعرف أ ن الغرفة التى توجد فيها الآن وسريرها الحديدى الذى تستلقى عليه ،هي نفسها الغرفة  التى سجن فيها  قبل سنوات من الآن  شيخ البعثيين محمد يحظيه ولد ابريد الليل  والعبارة له، قلت  له وكيف لى أن أعرف  ذلك ،وأنا أدخل هذا المكان لأول مرة ،  لقد اعتقلت أيام الثانوية لفترة وجيزة ومن حين لآخر يتم  توقيفى واستجوابى لكنها المرة الأولى التى أدخل فيها السجن  المركزي،....
 
...وبدأ الحكواتى عميد سجناء العنبررقم ٢ يروى بأسلوبه  الشيق  قصصه عن جماعة  البعثيين الذين  قضو معه فترة  وجيزة فى  السجن ،وكيف كانو  يقضون وقتهم فيه، وحدثنى عن لقاءاته مع ولد ابريد الليل الذى ير كر نقاشه معه على الأبعاد الإجتماعية فقط  ولا يقبل نقاشه  فى مواضيع السياسة..
 
 ....دلنى عميد العنبر رقم  ٢ على سطور بالفرنسية محفورة فى جدار الغرفة  الموالية لجدارغرفتى،وقد حفرها هناك سجناء من حركة أفلام، جمعهم  نفس العنبر مع  جماعة من البعثيين ،وفى غرفتى كذلك دلنى علًى حروف محفورة  على الجدار الذى  يقع فى واجهتى  وقال لى..  هذه حروف أخرى سطرها. أحد رفاق ولد بريد الليل ،لكنى لم أعد أذكر مضمونها، كان الحكواتى يريد أن يستدل بتلك الشعارات الجدارية على قوة تحمل الساسيين من أجل المبادئ  وكان متأثرا  ومعجبا أيما إعجاب بمحمد يحظيه ولد ابريد الليل.
 طرح  علي  الحكواتى  مرة  سؤالا كبيرا لم أستطع الرد عليه....
  لماذا يتكرر دائما سجن  القوميين  وحدهم .
فماهي  مشكلتكم مع  ولد هيدالة ومع  ولد الطائع
 
أجبته مالمسؤول بأعلم من السائل
 
شعرت بغبطة كبيرة عندما أخبرنى ذلك الحكواتى عميد سجناء العنبر  رقم ٢ بأن غرفتى وسريرى هما نفس غرفة وسرير  ولد بريد  الليل  أيام سجنه،لسببين لأنه قائد قومى  ضحى كثيرا من  أجل مبادئه ولأنه من أكثر السياسيين  عرضة للسجون فى سبيلها.
 
محمد سالم ولد الداه
 
من  دفتر ذاكرة الأيام الغبر
 
السجن المدنى
١٩٩٦