حفظ الله موريتانيا \محمد الامين الفاضل

محمد الامين الفاضل

برفض المجلس الدستوري للطعون المقدمة إليه، وبتزكيته للنتائج التي أعلنت عنها لجنة الانتخابات يكون المجلس قد أدخل موريتانيا في مرحلة بالغة الدقة والخطورة.
كنا نأمل من هذا المجلس أن يقدر خطورة اللحظة وحساسيتها، وأن يلغي استفتاء الخامس من أغسطس الذي إن قلنا عنه بأنه كان استفتاء قد شابته عمليات تزوير نكون قد رفعنا كثيرا من شأنه، فهو في حقيقة أمره لم يكن إلا مجرد تزوير في تزوير، وربما تكون  قد شابته ـ في أحسن أحواله ـ شفافية في هذا المكتب أو ذاك.

كنا نأمل من هذا المجلس أن يتحمل مسؤوليته، ولو لمرة واحدة، فيلغي نتائج هذا الاستفتاء الذي ستتغير بموجبه بعض الرموز الوطنية، وذلك على الرغم من أنه استفتاء جاء نتيجة لحوار أحادي، وفي جو غير توافقي، وعرض على البرلمان فأسقطته غرفة الشيوخ، ليعرض مرة أخرى ـ وبطريقة غير دستورية ـ على الشعب الموريتاني، وليسقطه الشعب الموريتاني للمرة الثانية بالعزوف عن المشاركة فيه، ولكن كل ذلك لم يمنع من تمرير نتائج هذا الاستفتاء من خلال تزوير إرادة الشعب الموريتاني بقرار من السلطة الحاكمة وبمباركة من لجنة التزوير وبتزكية من مجلس التسريب.
كنا نأمل من مجلس التسريب هذا أن يكفر عن أخطائه الكثيرة، وأن يستغل الفرصة، ولكن هذا المجلس الذي وصف ذات حفل تنصيب انقلاب السادس من أغسطس بالحركة التصحيحية، وذلك خلال عرض رئيسه لسيرة الرئيس المنصب، وهذا المجلس الذي تلاحق رئيسه تهمة تسريب الباكالوريا، لم يكن ليختم مأموريته بعمل صالح، ولم يكن ليكتب له شرف إلغاء استفتاء غير توافقي، وغير دستوري، كان قد شهد في يوم الاقتراع تزويرا غير مسبوق.
أجاز مجلس التسريب استفتاء الخامس من أغسطس، و يكون بذلك قد أدخل موريتانيا في مرحلة الذروة من أزمتها السياسية البالغة الخطورة، وهي الأزمة التي كانت قد بدأت بانقلاب عسكري، وها هي تصل اليوم إلى مرحلة الذروة بسبب انقلاب دستوري.
موريتانيا بين انقلابين
في السادس من أغسطس من العام 2008 قاد الجنرال محمد ولد عبد العزيز انقلابا عسكريا دفاعا عن وظيفته التي أقيل منها، وأدخل بذلك البلاد في أزمة سياسية ودستورية بالغة التعقيد، وكان من نتائجها أن أصبحت بلادنا برئيسين، أحدهما فرض رئاسته بالقوة العسكرية وبحكم الواقع، والثاني كان قد حصل عليها بأصوات الشعب وبصناديق الاقتراع، وظل الأمر على ذلك الحال إلى أن استقال الرئيس المنتخب بموجب اتفاق داكار ليصبح الجنرال المنقلب محمد ولد عبد العزيز رئيسا بدون منازع.
وفي الخامس من أغسطس من العام 2017 قاد الرئيس محمد ولد عبد العزيز انقلابا دستوريا، وربما يكون الانقلاب قد جاء هذه المرة رفضا للخروج من الرئاسة من بعد منتصف العام 2019. وبموجب هذا الانقلاب الدستوري ستصبح موريتانيا في المرحلة المقبلة بلادا بدستورين، وبعلمين، وبنظامين تشريعيين، وبنشيدين وطنيين، وبتاريخين، وربما بجغرافيتين لا قدر الله.
لقد أدخلنا الرئيس محمد ولد عبد العزيز في الخامس من أغسطس من العام 2008 في أزمة سياسية ودستورية بالغة التعقيد، وذلك دفاعا عن وظيفته كقائد حرس، وها هو اليوم يدخلنا في أزمة سياسية ودستورية أشد خطورة، وذلك لأنه لا يريد أن يغادر منصبا لم يعد له الحق في البقاء فيه من بعد منتصف العام 2019. هكذا ظل الدستور الموريتاني ألعوبة في يد ولد عبد العزيز يلغيه عندما يقال من وظيفة، ويعبث به عندما يقترب موعد خروجه من الرئاسة.
يقول البعض بأن إصرار الرئيس ولد عبد العزيز على التعديلات الدستورية وعلى تغيير بعض الرموز الوطنية ليس من أجل البقاء في الرئاسة، وإنما هو من أجل ترك بصمة تذكر له من بعد خروجه المفترض من القصر الرئاسي في منتصف العام 2019. هذا قول غير صحيح، ولو أن الرئيس ولد عبد العزيز أراد حقا أن  يتركه بصمة خالدة يذكرها له التاريخ، لهيأ الظروف السياسية المناسبة للخروج من السلطة في منتصف العام 2019 ، ولكن يبدو أن الرئيس سيحرم نفسه من شرف الخروج الطوعي والآمن من السلطة، مثلما حرم المجلس الدستوري نفسه من شرف إلغاء نتائج استفتاء 5 أغسطس. يعلم الرئيس محمد ولد عبد العزيز بأنه حتى وإن فرض علم الخطين الأحمرين لفترة من الزمن، فإن الرئيس القادم سيلغي ذلك العلم، وسيحظى بتأييد شعبي كبير، ويعني ذلك بأن البصمة التي أراد الرئيس ولد عبد العزيز أن يفرضها بالقوة في صفحات التاريخ الموريتاني لن تعمر طويلا.
غالب الظن أن إصرار ولد عبد العزيز على تعديلاته غير الدستورية، إنما هو من أجل التمهيد لتعديلات أخرى تهدف إلى البقاء في السلطة لفترة أطول، ولن تحتاج التعديلات القادمة لاستفتاء شعبي آخر، وإنما ستحتاج فقط لمسيرات يطلقها غثاء المطبلين والمتملقين، تأتي من بعدها تعديلات أخرى ستمررها الجمعية الوطنية بنسختها السيئة الحالية، وبأغلبية مريحة.
هذا هو ما يفكر فيه الرئيس ولد عبد العزيز، حسب ما توحي به قراراته وتصرفاته، إن كانت تلك القرارات والتصرفات يحكمها أي منطق. ومن هنا يبدو أن احتمال البقاء في السلطة من بعد اكتمال المأمورية الثانية قد أصبح أكثر حضورا في تفكير ولد عبد العزيز من الخروج منها، حتى وإن كان الرجل يعلم حيدا بأن التفكير في البقاء في السلطة قد يؤدي إلى الخروج منها حتى من قبل اكتمال المأمورية الثانية، وأن الخروج منها ـ أي السلطة ـ في أجواء غير توافقية وفي ظل أزمة مستفحلة سيجلب له مخاطر كثيرة، ومن هنا يبرز السؤال:
لماذا لم يعمل الرئيس على الخروج الآمن من السلطة؟
ستبقى معادلة الخروج الأمن من السلطة مقابل التغيير الآمن هي المعادلة الأمثل التي تحقق مصالح للجميع، فهي تضمن لموريتانيا تغييرا سلسا، هذا بالإضافة إلى أنها تتيح للرئيس الخروج الآمن في فترة من الزمن شح فيه الخروج الآمن من السلطة، وللرئيس أن يأخذ العبرة من الطريقة التي خرج بها القذافي، وحسني مبارك، وزين العابدين بن على، وعلى عبدالله صالح من السلطة، وتتيح كذلك للمعارضة ـ أي معادلة الخروج الأمن مقابل التغيير الآمن ـ  تغييرا آمنا في زمن شح فيه التغيير الآمن، وللمعارضة أن تتذكر ما حصل في ليبيا، ومصر، واليمن، وسوريا...إلى آخر القائمة .
إن الخروج الآمن من السلطة مقابل حصول تغيير آمن كان سيحقق ـ لو تم الأخذ به ـ  مصالح للطرفين (السلطة والمعارضة)، هذا فضلا على أنه سيحقق مصالح عديدة لموريتانيا، ولكن هذا التغيير الآمن يحتاج إلى شرطين أساسيين:
1 ـ بناء الثقة بين السلطة والمعارضة، ومن المعلوم بأن تمرير الاستفتاء سيقضي على أي إمكانية لبناء الثقة بين السلطة والمعارضة.
2 ـ تخفيف حدة الخلاف والتوتر بين السلطة والمعارضة، وخلق أرضية مناسبة لفترة شبه انتقالية يشارك الجميع في وضع تصوراتها، وتمهد لانتخابات تشريعية ورئاسية شفافة يرضى الكل بنتائجها، وخلق هذه الأرضية كان من المفترض أن يبدأ في النصف الأول من العام 2017. الملاحظ أن الاستفتاء وتمرير نتائجه سيجعل من خلق هذه الأرضية أمرا في غاية الاستحالة.
يمكننا أن نقول بأن الرئيس ولد عبد العزيز قد أغلق باستفتائه العبثي وبتمرير نتائج هذا الاستفتاء الباب أمام أي إمكانية لتحقيق تغيير أمن مقابل خروج آمن من السلطة. هنا يبرز السؤال ما هي السيناريوهات المحتملة بعد إغلاق الفرصة أمام حدوث أي خروج آمن من السلطة في منتصف العام 2019؟
إن الإجابة على هذا السؤال المقلق تفترض منا أن نلقي نظرة سريعة على الوضعية المحتملة التي ستكون عليها السلطة والمعارضة في الفترة القادمة.
أولا : السلطة وموالاتها
ستنشغل السلطة في الفترة القادمة في تسيير الأزمة السياسية التي ستظل في تفاقم واستفحال، وسيجعلها ذلك تبتعد بشكل كامل عن هموم المواطن وعن قضايا التنمية التي لم تهتم بها أصلا، الشيء الذي سيؤدي في المحصلة النهائية إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وإلى زيادة تذمر المواطنين. سيحصل كل ذلك في ظل أزمة اقتصادية خانقة تمر بها البلاد، وفي ظل انتهاء صلاحية كل الشعارات البراقة التي تم رفعها من بعد انقلاب 6 أغسطس 2009.
سيزيد من تعقيد الأمور بأنه لا يوجد بالسلطة الحالية رجال يعول عليهم في إطفاء النيران، ولا في التخفيف من حدة الأزمات، بل على العكس من ذلك فمن يوجد الآن في هرم السلطة هم مجرد شخصيات صدامية يعرفون جيدا كيف يشعلون النيران وكيف يخلقون الأزمات وهم لا يمتلكون المؤهلات ولا حتى الرغبة في التخفيف من حدة التوتر والاحتقان، ولكم في الوزير الأول ورئيس الحزب الحاكم ووزير الاقتصاد والمالية خير مثال. المقلق في الأمر بأن مثل هذه الشخصيات الصدامية ستكون أكثر حضورا ونفوذا في الفترة القادمة. لقد اختار الرئيس مسارا صداميا بتمرير وفرض تعديلاته الدستورية، ولذلك فإن المرحلة القادمة ستكون مرحلة احتقان بامتياز، ولن يظهر في واجهة السلطة إلا الشخصيات الصدامية القادرة على تأزيم الأوضاع وعلى خلق المزيد من الأزمات.
ثانيا المعارضة
ستكتسب المعارضة في المرحلة القادمة المزيد من الأنصار، وسيكون خطابها أكثر إقناعا، ولكن المعارضة ستواجه في الفترة القادمة خيارات صعبة، فهي إما أن تشارك في انتخابات تشريعية ورئاسية من بعد ذلك ستشرف عليها هيئات أثبتت عدم مصداقيتها وعدم حيادها، أو تشرف عليها هيئات أخرى سيتم تشكيلها في الفترة القادمة، ولكن بنفس الطرق والآليات التي تم بها تشكيل الهيئات الحالية مما يعني بأنها لن تختلف عنها. وإما أن تقاطع المعارضة تلك الانتخابات وهنا ستكون المصيبة أكبر. وفي كل الأحوال، وسواء شاركت المعارضة أو قاطعت، فإن هذه المعارضة ستجد في الفترة القادمة الأرضية المناسبة لخلق أزمات حقيقية للنظام، ولركوب كل الأزمات التي خلقها أو سيخلقها النظام من خلال فرضه لتعديلاته العبثية ولمساره الأحادي.
وفي الخلاصة فإن السلطة والمعارضة ستنشغلان في الفترة القادمة بخلق المزيد من الأزمات وزيادة الاحتقان، ولكل أسبابه الخاصة وإكراهاته التي ستفرض عليه ذلك. سيجد النظام نفسه غير قادر على مواجهة هموم المواطن ولا الانشغال بقضايا التنمية وهو ما سيعني دخول النظام الحاكم في مرحلة سكرات الموت التي قد تطول وقد تقصر، وستجد المعارضة نفسها غير قادرة على فرض التغيير من خلال صناديق الاقتراع، ولذلك فإن الظروف ستكون مناسبة تماما لحصول تغيير غير آمن إما عن طريق انقلاب عسكري قد يكون دمويا في هذه المرة، أو عن طريق ثورة شعبية لا يمكن لأي كان أن يتحكم في مسارها ولا في مآلاتها .