بعض قضايا التعليم الثانوي.. رأي مجرد ومجرد رأي

ابراهيم محمد مزيد

يعتبر التعليم بشكل عام متركزَ بناء الأمم والدول والدعامةَ الأساسية لقوامها ومقياسَ حضارتها ورقيها وحافظ ماضيها ونبراس حاضرها وضامن مستقبلها، الشيء الذي يجعل الانتباه له والاعتناء به من الأهمية بمكان.
ونظرا للصعوبات التي تواجه تعليمنا اليوم والتي لست بصدد الحديث عنها ـ لكونها جلية واضحة ولأن المقام لا يتسع لها ـ والمشاكل الجمة والمتشعبة

 والمتلاحقة التي تواجه أي محاولة إنجاز إيجابي من طرف  القائمين عليه ، والتراكمات والأخطاء الفادحة التي تُثقل كاهله، رأيت في نظرة في بعض قضايا التعليم الثانوي ولو أنها خاطفة أن أبديَ وجهة نظر في بعض الخُطى؛الإيجابيِّ منها ـ ولو أنه واجب فعله من يلزمه ـ تثمينا وإنصافا وتشجيعا من باب ندب الفاعلين على المواصلة والزيادة والتزام الخطى الصحيحة الهادفة ـ مهما كان حجمها ـ والتي تخدُم، وكذلك السلبيِّ بإبرازِ بعض المسائل التي لا تخدم العملية التربويةـ حسب رأيي ـ بل تعرقلها أحيانا إن لم نقل إن بعضها كان وبالا ، محاولا أن يكون كل ذلك بنوع من التجرد.
وبما أن امتحاناتِ الشهاداتِ ـ وخصوصا الباكلوريا ـ هي خلاصةُ وزبدةُ العملِ التعليميِّ الثانويِّ عندنا فإنه مما يستحق الذكر ما حظيت به هذه الشهاداتُ هذه السنةَ من تحسن ملحوظ في سيرها بشكل عام، خصوصا على مستوى الإجراءات التنظيميةِ والقراراتِ العقابية وآلياتِها الرادعةِ التي أُعلنت، وشكَّل الإحساس بجديتها رادعا مهما وعائقا أساسيا أمام كل ما كان يُتوقع أن يطبع جو هذه الامتحاناتِ من فنيةِ وتزايدِ محاولات الاختلاس وجو الفوضى واللاّ ضبط؛ في ظل التطور التكنولوجي الرقمي التواصلي الذي تتزايد صعوبة تطويقه والحدِّ من تمرده،فكان تحديا كبيرا تم التعامل معه والتقليص من دوره إلى حد كبير.
كما أن النتائج شهدت بأن التصحيح كان على مستوى كبير من المصداقية، حيث نجح في هذه الشهادات ـ على العموم ـ  التلاميذُ الذين كان مشهودا لهم بالأحقية خلال الامتحانات والأعمال السنوية ، وليس إحرازُ المركز الأول في الشهادة الإعدادية من طرف تلميذة أحرزت نفس المركزـ بارك الله فيها ـ في مسابقات "الرالي" التي أجريت نهاية السنة إلا من شواهد ذلك، وهو شيء مهم نهنئ به المصححين. وكنا قد سمعنا بحصول عدة ملاحظات في السنوات الماضية من نجاح من لا يستحق أحيانا وإخفاق من يستحق أحيانا أخرى وهو أمر مشين لا يرضاه الأساتذة كمعنيين مشرفين ومصححين ويجب أن يواصلوا العمل على تلافيه كما حصل هذه السنة؛ استشعارا للمسؤولية ووعيا بأنه طامة كبرى ومأزق حقيقي وإن كان بحالات محدودة أو شاذة؛ إلا أن القاعدة هنا لا تحتمل الشذوذَ والميدانَ وأهلَه لا يحتملون هكذا أخطاءَ أو ثغرات تجعل جَرَّة قلم تعصف بنتيجة عمل سنوي بل تراكمي لسنوات كثيرة بجهد جهيد من تلميذ مسكين أضنى نفسه وحاضنتَه الأسرية التي قد تكون أرملة تكدُّ ذات اليمين وذات الشمال لتصرِف على أملها الوحيد بتضحية وعزم ، يهوِّن عليها ذلك ويطمئنها به أن بذرها سيكون غدا على ما ترجو وإليه تصبو؛ فيُشعل ذلك القلم عودُ الثقاب بجرَّته المولِعة تلك نارا تجعل الآمالَ تتبخرُ والعزائمَ تخور والقوَى تنهار، ويلاحق لهيبُها ربما كل مفاصل حياة المتضرر.
ومن ضمن التحسينات الملفتة أيضا تناقص ظاهرة الغياب الطويل أو المتكرر بالنسبة للأساتذة مع تحسن في التوزيع ، وكونِ المناطق التي لا يكثر عليها الطلب أو الغيرُ مرغوبة بقيت دائما مُشركة بنصيب مناسب رغم ما في ذلك من مصاعبَ جمة أكيدة وعراقيلَ حقيقية معروفة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أعداد هؤلاء لا تغطي و لا حتى تقترب من تغطية الضروري من الحاجة ، بل لا زالت ـ للأسف ـ من ذلك بعيد. كما يجدر القول بأنه رغم التقدم الذي طرأ على البنية التربوية في المباني ونوعيتها بالنسبة لسابقاتها قبل سنوات ـ والذي لا يكفي الحاجة هو الآخرـ بقي استغلاله الأمثلُ وتوزيعه الصحيح بين مطرقة التقرِّي الفوضويِّ وسندان ضغط طلبات بعض السياسيين الذين هم بدل الإنصاف كل "يغرف لحفرته" وفقط ، رافضين في كثير من الأحيان التجميع المعياري إذا لم تتوفر معاييره في القرية أو التجمع الخاص بهم بالمفهوم السياسي أو الاجتماعي. ويبقى النقص الحاصل في الكادر البشري هو الآخر معوقا أساسيا ، وإذا نظرنا إلى الحاجة المضافة سنويا وإلى حجم الاكتتاب كل عام لوجدنا أن البون شاسع والفرقَ كبير حدَّ المخيفِ والمهدد إن استمر بعجز بنيوي في غضون سنوات قليلة. إننا يمكن أن نقول إن السياسة المتبعة حتى الآن في الاكتتاب مشوبة بالكثير من النواقص والأخطاء ، فما التعاقد الفوضوي والمتأخر غالبا والذي لا يخضع صاحبه لأي امتحان مكتوب إلا تجل من تلك النواقصِ رغم أن الكثير من العقدويين والمتعاقدين أثبتوا على الميدان جدارتهم وأهليتهم؛ بل إن بعضهم قد يكون أحسنُ في الواقع ربما من بعض الموظفين الرسميين ، إلا أن طريقة التعاقد تبقى غير مقبولة ولا مقنعة. والسؤال المطروح هو ما دام أنه لا شك في الحاجة الملحة لهؤلاء والحيز الكبير الذي يملؤون والدور الكبير الذي يقومون به ، فلماذا لا يتم اكتتابهم بشكل رسمي بمسابقة تمتحنهم أو تعتمد سيَرهم الذاتية ، أو نجاحَ تجربتهم، فنسُد النقص ونحسن من وضعيتهم الوظيفية دون أن يمنعنا من ذلك الركون لأي شرط مع أي شريك تنموي ؟سيتطلب ذلك بالتأكيد الكثير من الوسائل لكن الأمر يستحق البذل والتضحية لتحقيقه، مع أن العدد الكلي لهؤلاء في الحقلين الأساسي والثانوي لا يكفي لسدِّ النقص الحاصلِ . ثم إنه لماذا لا نفتح المجال للمعلم الذي تؤهله كفاءته الالتحاق بالتعليم الثانوي أن يلتحق به وللأستاذ الذي هو كذلك أن يلتحق بالتعليم العالي ، فنشجع بذلك زيادةَ العطاء المعرفي بالدخول في إطار جديد؛ والأخذَ العلميَّ بمواصلة الاستزادة المعرفية بشكل مستمر، وهو شيء في الحقيقة يتناقص في كثير من الأحيان عندما يدخل المدرس ميدان التدريس للأسف.
إننا بذلك يمكن أن نمتص جزء من البطالة باكتتاب بدائلَ لكل من تقدَّم أو ترقَّى في سلم الوظائف التعليمية ، بل لماذا لا نطبق نظام حصة الموظفين في المسابقات الخارجية والتي حُددت مرة بثلاثين بالمائة؛ كي نفسح المجال لديناميكية الأدمغة ونحُد من الركود والروتين الذيْن قد يكبلان قدراتِ المرءِ ويجمدان فاعليته ، ويُحجمان به عن التطلع للأفضل أو ما يجد فيه ذاته أكثر.
وإذا كنا لا يمكن أن نكتتب دفعةً واحدةً ما نسد به النقصَ ، ألا يمكننا الاستعانة بالوقت الشاغر لمن رغب من إداريين وأساتذة ميدانيين أو متقاعدين لسد بعض ذلك النقص مقابل تعويض مناسب محفز؟ ألا يكون ذلك أقل تكلفة وجزء من حل ولو مؤقتا؟ وكذلك ألا يكون فتح قسم امتياز في كل مؤسسة بحيث تتوزع مؤسساتٌ عدةٌ أقسامَ الامتياز بمستوًى لكل مؤسسة أحسنُ من فتح مؤسسة امتياز مستقلة بطاقمها الإداريِّ وأساتذتها لكل مادة، مع توزيع الامتيازات بين من يباشرون العمل فيها ترشيدا للموارد الاقتصادية والبشرية أحسن؟.
وأخيرا تعتبر انسيابية العمل الإداري ومرونتُه وتنسيقه أمورا ضرورية لا غنى عنها في إنجاحه والدفع به للأمام لتحقيق الأهداف دون عوائقَ وعراقيلَ ، الشيء الذي تأثرت الوزارة المعنية باختلالاته الملاحظة بين الوزارات بشكل عام،إذ كان نصيبها منه كبيرا وحظها منه وافرا انعكس ذلك جليا في التذبذب واللانهائية في كثير من قراراتها وأعمالها المتعلقة بالناحية الإدارية الخارجية التي لم تخلُ في بعض الأحيان من انعكاسات تصلب وتحجر وعدم مرونة؛ أثر في الانسيابية ووصول الحق إلى أهله في الوقت المناسب وخصوصا ما تعلق منها بوزارة الاقتصاد والمالية؛ فهل لذلك من سبيل حل؟ نتمنى أن تجد كل صعوبات هذا القطاع الحيوي تذليلا،وكل مشاكله حلولا، وكذلك الرجاء لكل القطاعات.