قصة جميلة لأكرم رجلين في عهد الدولة الإسلامية (تستحق القراءة)

تشبث العرب القدماء بالشيم والخصال الحميدة حتى أصبحت من عاداتهم وتقاليدهم ومن يخالفها يكون مذموما منبوذا أعزل وهذه القصة التي بين أيدينا خير شاهد ودليل على ذلك.

حيث كان في زمن الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم رجلٌ يُقال له " خُزيمة بن بِشر " ؛ من بني أسد بالرَّقَّة ، وكانت له مروءة و نِعمة حسنة وفضل و بِرٌّ بإخوانه ، فلم يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضَّلُ عليهم ، فواسَوْهُ حيناً ، ثم ملُّوهُ ، فلمّا ظهر له تغيُّرهم أتى إلى امرأته - وكانت ابنة عمه - ؛ فقال لها : يا بنت العمّ ؛ قد رأيتُ من إخواني تغيُّراً ، و قد عزمتُ على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت .
 وأغلق بابه عليه ، وأقام يتقوَّتُ بما بقي عنده ، حتى نفدَ ؛ وبقي حائراً في أمره ؟!!.

نخوة شهم :

ــــــــــــــــــ
 وكان خزيمة من جُلّاس والي الجزيرة عِكرمةَ الفيَّاض الرِّبعي - و سُمِّي " الفياض " لكثرة ما يفيض على إخوانه من المال والعطايا - ، و في أحد الأيام كان عكرمة في مجلسه ؛ وعنده جماعة من أهل البلد ، فجرى ذِكر خزيمة بن بشر في المجلس ، فقال الوالي عكرمة مستفهماً عن تغيبه الذي طال عن مجلسه : ما حاله ؟ فقالوا : صار من سوء الحال إلى أمرٍ لا يُوصَف ؛ فأغلق بابه ؛ ولزم بيته .!! فقال عكرمة الفيَّاض : فما وجدَ خُزيمةُ بنُ بِشر مُواسِياً ولا مُكافئاً ؟ قالوا : لا . فأمسك عن الكلام ، و عزم في نفسه على فعل شيء .
 فلما كان بالليل عمد إلى أربعة آلاف دينار ؛ فجعلها في كيس واحد ، ثم أمر بإسراج فرسه ،وخرج سِرّاً دون أن يُعلم أهله ، فركب ومعه غلام من غِلمانه يحمل المال ، ثم سار إلى بيت خزيمة ، حتى وقف ببابه ، فأخذ الكيسَ من الغلام ، ثم أبعده عن الباب حتى لا يرى و لا يسمع ماذا سيكون من فعله و كلامه .
 ثم تقدم عكرمة الفياض إلى الباب فدقَّه بنفسه ، فخرج إليه خزيمةُ ، و دون كلام ناوله كيس المال ، و قال له : أَصلِح بهذا شأنَكَ . فتناوله خزيمةُ ؛ فرآه ثقيلاً ؛ فوضعه ، ثم أمسك لجام دابّة الفياض ، وقال له : مَن أنت - جُعِلتُ فِداكَ - ؟ . فقال الفياض : ما جِئتُك هذه الساعةَ وأنا أريد أن تعرفني !! . فقال خُزيمة : فلن أقبل منك ما جئت به قبل ان تُخبرَني من أنت ؟ . قال : أنا "جابر عَثَرات الكرام"  , قال خزيمة : زدني . قال : لا . ثم مضى عكرمة ،  ودخل خُزيمة بالكيس إلى امرأته ؛ فقال لها : أَبشِري ؛ فقد أتى اللهُ بالفَرَج والخير ، ولو كان ما في هذه الصرة فُلوساً فهي كثيرةٌ جدا ؛ قومي فأَوقدي لنا السراج حتى نرى . فقالت : لا سبيل إلى السِّراج !! – لم يتبقَّ عندنا زيت نوقد به السراج !! - . 
فبات ليلته يتلمس الكيس ؛ فيجد خُشونة الدنانير وهو لا يصدِّق أن هذا كله مال ؛ و أن الفرَج قد جاء .

غَيرة لطيفة ؛لكن نتيجتها رائعة :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 ورجع عكرمة الفيّاض إلى منزله ، فوجد امرأته قد افتقدَتْه؛ وسألت عنه ؟ فأُخبِرَت بركوبه منفرداً ، فارتابت لذلك ؟!! فشقت جَيبَها ؛ولَطَمَت خدَّها ؛ و هي تظن به الظنون !!! ، فلمّا رآها على تلك الحال قال لها : ما دَهاكِ يا بنتَ العم ؟ . قالت : غَدَرتَ يا عِكرمةُ بابنة عمّك ؟. قال : وما ذاك ؟قالت : أميرُ الجزيرة يخرج بعد هَدْأَةٍ من الليل مُنفرداً دون غلمانه ؛ في سِرٍّ من أهله !! والله ما يَخرُج إلا إلى زوجة أو سَرِيةٍ ؟ ... 
و هكذا المرأة إذا ما تحركت فيها الغيرة أو أثيرت شكوكها ... بركان هادر ؛ مدمر ... 
 فقال لها زوجها عكرمة : لقد علمَ اللهُ أَنِّي ما خرجتُ إلى واحدة مما ذكرتِ . قالت : فخبِّرْني ؛فِيمَ خرجتَ ؟ قال : يا هذه ؛ لم أخرج في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلمَ بي أحد ؟! قالت : لا بد أن تخبرني . قال : فاكتُميه إذاً . قالت : أَفعلُ . فأخبرها القصة على وجهها ، وما كان من حديث بينه و بين خزيمة و كيف أعطاه المال ؛ و كيف سأله عن اسمه؟ و كيف أجابه قائلاً : "أنا جابر عثرات الكرام" . ثم قال لزوجته : أتُحبِّين أن أحلف لك ؟ قالت : لا ؛ فإن قلبي قد سَكَن إلى ما ذَكَرتَ .

 

كبير يعرف قدر الرجال :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 فلما أصبح خُزيمة صالحَ الغرماء – دفع ديونه - ، وأصلح من حاله ، ثم تجهز لزيارة الخليفة سليمان بن عبد الملك بفلسطين –  وكانت عسقلان بفلسطين مصيف الخلفاء - ، فسافر إليه ، و لما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بوصول خزيمة بن بِشر للقائه – و كان الخليفة سليمان بن عبد الملك يعرف خزيمة و مروءته وكرمه - ، فأذن له بالدخول ، فلما دخل عليه وسلم ، قال له الخليفة : يا خزيمة ؛ ما أبطأك عنا ؟ قال : سوء الحال . قال: فما منعك من النّهضة إلينا ؟ - لماذا لم تأت إلينا لنسعفك ؟ - قال خزيمة : ضعفي يا أمير المؤمنين . فقال الخليفة : ففيمَ نهضت ؟ - كيف فُرِّج عنك فاستطعت أن تأتي إلينا ؟ - قال : لم أعلم - يا أمير المؤمنين - بعد هَدأَة الليل إلا و رَجُلٌ طرق بابي ، فكان منه كَيت وكَيتَ ... وأخبره القصة من أولها إلى آخرها . فقال له الخليفة : هل تعرفه ؟ قال خزيمة : ما عرفته يا أمير المؤمنين ، وذلك لأنه كان متنكِّراً ، وما سمعت منه إلا " أنا جابر عثرات الكرام " . فقال الخليفة متلهفاً إلى معرفته : لو عَرَفناه لأعنَّاهُ على مروءته .

 

مِنحة المبتلَى و مِحنة الشهم الكريم :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 ثم قال : عليَّ بقَناة – ورقة ليكتب عليها - . فأُتِي بها ، فعَقَد لخزيمة الولايةَ على الجزيرة ؛ مكان ولاية عكرمة الفياض ... لقد عزل عكرمة و أقام مكانه خزيمة ؟؟؟!!
 فخرج خزيمة متوجها للجزيرة ،فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه ، فسلم عليه ، و سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد ، فنزل خزيمة في دارة الإمارة ، و كان قد أعلن البحث عن " جابر عثرات الكرام " ، و جعل جائزة مغرية لمن يدله عليه .
 وأول ما باشر ولايته بدأ بمحاسبة الموظفين السابقين ؛ بدءاً بالوالي السابق نفسه ، وأمر بالتدقيق في الحسابات المالية للولاية ، فوجد نقصا في خزينة الولاية لحساب عكرمة الفياض ، فأمر خزيمة أن يُؤخَذ عِكرمةُ – أن يُحَّقق معه - ، وأن يُحاسَب ، فحُوسِب ، فوُجِدت عليه فضول ٌكثيرة – نقص في خزينة مال الولاية - ، فطلب من عكرمة أن يؤديها . فقال عكرمة : مالي إلى شيء منها سبيلٌ ؟ فقال خزيمة : لا بد منها !! فقال : ما هي عندي ؛ فاصنع ما أنت صانع . فأَمر به إلى الحبس ؛ فحبسه !! ثم بعث إليه يطالبه . فأرسل إليه : إني لستُ ممن يصون مالَه بعِرْضِه ؛ فاصنعْ ما شئتَ ؟! ... رفض أن يكشف أين أنفق المال حتى لا يقال : إنه كشف عورات المساكين و المحتاجين الذين أنفق عليهم المال ؛ و منهم خزيمة نفسه ...!! سبحان ربي العظيم ؛ ما هذه النفوس الكبيرة ؟
فأمر خزيمة به ؛فكُبِّل بالحديد ، وضُيِّق عليه ، وأقام كذلك شهراً أو أكثر ، فأضناه ذلك ، و أضرّبه .

هـ – ذكاء امرأة :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 وبلغ إلى زوجته ما نزل بعكرمة من الضُّرِّ والأذى ،فجزعت عليه ، واغتمَّت لذلك ، ثم دعت مولاةً – خادمة - لها ذات عقل ، وقالت لها : امضي الساعةَ إلى باب هذا الأمير ؛ فقولي : عندي نصيحة . فإذا طُلِبَت منك ؛ فقولي : لا أقولها إلا للأمير خزيمة بن بشر . فإذا دخلتِ عليه فسَلِيه أن يُخلِيك – أن يكون حديثك معه على انفراد بينكما - ، فإذا فعل ؛ فقولي له : ما كان هذا جزاءَ جابر عثرات الكرام منك ! كافأْتَه بالحبس والضيق والحديد ؟ .
 فذهبت المولاة إلى باب قصر الأمير ، و فعلت ما قالته لها سيدتها ، فلما سمع خزيمة دعاها ؛ فاستمع منها كلامها ، و إذا به يقول : وا سوأتاه ! وإنه لهُوَ جابر عثرات الكرام ؟ قالت : نعم .

 

و جاء الفَرَج :

ـــــــــــــــــ
 فأمر خزيمة مباشرة بتجهيز راحلته ، فأُسرِجَت ، وبَعَث إلى رؤوس أهل البلد فجمعهم ، وأتى بهم إلى باب الحبس ففُتِح ،  ودخل خُزيمةُ ومن معه ، فوجد عِكرمةَ في قاع الحبس متغيِّراً ؛ قد أضناه الضُّرّ ، فلما نظر إليه عِكرمة وإلى الناس أَحشَمَه ذلك ونكَّس رأسه – خجل من الناس و من الوالي ، و علم أنهم عرفوا أنه هو جابر عثرات الكرام - ، فأقبل خُزيمة حتى أكبَّ على رأس عكرمة ؛فقبَّله ، فرفع عكرمةُ رأسَه ؛ وقال : ما أعقبَ هذا منك ؟ - ما الذي جعلك تغير موقفك مني ؛ فأنت سجنتني و عذبتني ؛ والآن تقبل رأسي ؛ فما الذي سبب هذا التغيير منك في معاملتي ؟؟ - ، فقال الوالي خزيمة بن بشر : كريمُ فِعالك ؛ وسوء مكافأتي !!. فقال عكرمة : فغَفَرَ اللهُ لنا ولك . 
 ثم أمر خزيمة الحدَّادَ ؛ ففكَّ القيدَ عن عكرمة ، وأمره أن يضَعَه في رِجْل نفسه !! . فقال عكرمة : تريد ماذا ؟ قال خزيمة : أريد أن يَنالَني الضُّرُّ مثل ما نالك . قال عكرمة : أقسم عليك بالله ألا تفعل . 
 فخرجا جميعاً من السجن ، إلى أن وصلا دار خزيمة ، فودّعه عكرمة ، و أراد الانصراف ، فقال له ابن بشر : ما أنت ببارح !!. قال عكرمة : وما تريد ؟ قال : أغيِّر من حالك ، وحيائي من ابنة عمِّك – زوجتك - أشدُّ من حيائي منك !! . 
 ثم أمر خزيمة بالحمَّام فأُخلِي ، و دخلا جميعاً ، ثم قام خزيمةُ فتولّى خدمة عكرمة بنفسه ، ثم خرجا ، فخلع عليه – أعطاه جميل الهدايا و ثمينها - ، وجَمَّله ، وأعطاه مالاً كثيراً ، ثم سار معه إلى داره ، واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه ، فأذن له ،فاعتذر لها ، و صار يذمّ نفسه على ما فعله ، ثم طلب من عكرمة أن يسافر معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك - وهو يومئذ مقيم بالرملة من فلسطين - ، فوافق عكرمة .

 

لا يعرف منازل الرجال إلا الرجال : 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 و في اليوم الثاني توجه عكرمة الفياض مع خزيمة بن بشر إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك ، فسارا جميعاً ، حتى قدما على سليمان بن عبد الملك ، فدخل الحاجبُ وأعلم الخليفة بقدوم خزيمة بن بشر ، فراعه ذلك وقال : والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا ؛ مع قُرب العهد به ؟ ما هذا إلا لحادث عظيم !! . فلما دخل خزيمة ؛ قال له الخليفة قبل أن يسلِّم : ما وراءك يا خزيمة ؟قال : خيرٌ ؛ يا أمير المؤمنين . قال : فما الذي أقدمك ؟ قال : ظفرت بـ " جابر عثرات الكرام " ، فأحببت أن أَسرَّك به ، لما رأيت من تلهفك وشوقك إلى رؤيته . فقال الخليفة : ومن هو ؟ قال : هو عكرمة الفياض . فأذن الخليفة له بالدخول ، فدخل عكرمة، وسلّم على الخليفة بالخلافة ، فرحّب به ، وأدناه من مجلسه ، وقال : يا عكرمة ؛ ما كان خيرُك له إلا وبالاً عليك !!؟؟ . 
 ثم قال : اكتُب حوائجَك كلَّها ، وما تختاره في رقعةٍ . قال : أَوَ يعفيني أمير المؤمنين ؟ قال : لا بدَّ أن تكتب . ثم دعا الخليفة بدواة وقرطاس ، وقال لخزيمة : اعتزِلْ ، و اكتُبْ جميعَ حوائجك . ففعل خزيمة ذلك ، فأمر الخليفة بقضائها جميعاً من ساعته ، وأمر لعكرمة بعشرة آلاف دينار ، وسِفطَين من ثياب ، ثم دعا بقناة وولّاه على الجزيرة و أرمينية وأذربيجان ،وقال له : أَمرُ خزيمة إليك ؛ إن شئتَ أبقيتَه ؛ وإن شئت عزلتَه ؟ فقال عكرمة : بل أردُّه إلى عمله يا أمير المؤمنين . 
 ثم انصرفا جميعاً إلى الجزيرة ، ولم يزالا عاملَين لسليمان بن عبد الملك مدّةَ خلافته.