محمد غيثي ولد محمد تايب.. حياة مع القرآن

معطى مولانا.. ذكريات شديدة الخصوصية (2)

من المحتمل أن تكون قد رأيت من قبلُ، في وسائل الإعلام الرسمية، القارئَ الفاضلَ الناجي ولد ابلال، وسمعت ترتيله للقرآن الكريم، خاصة ما كانت تبثه التلفزة قديما، لكن ربما ما لا تعرفه، أو لا يعرفه الجميع أن الناجي في تلك التلاوة يقلد أحد شيوخه، وأشهر معلمي القرآن في معطى مولانا، أعني معلمنا محمد غيثي ولد محمد تائب.
هذه واحدة من القصص العظيمة في سجلّ معطى مولانا الحافل، إنها لمحات موجزة من قصة رجل نذر حياته للقرآن، رجل جاء من قرية الطلحايه بمقاطعة تنبدغة ليعلم كتابَ الله لمئات بل لآلاف من الطلبة على مدى يصل الآن، بحمد الله، إلى ثلاثين عاما..

تنبدغه في اترارزه
وُلد الأستاذ محمد غيثي ولد محمد تايب قبيل الاستقلال، في محيط مشتغل بالقرآن، فقد حفظه على أبيه وأخذ الإجازة في محضرة أهل دهمد المعروفة، وسافر إلى نواكشوط متعلما ومعلما، إلى أن ساقته الأقدار إلى معطى مولانا، مطلع التسعينيات، وهناك بدأت مسيرة عامرة بالقرآن الكريم.
يمثل غيثي عصارة المحظرة القرآنية المزدهرة في الشرق الموريتاني، بتربيتها وإتقانها وثقافتها وأدبياتها في تعليم القرآن الكريم، حفظا وتجويدا ورسما وضبطا، وقد نقل إلينا صورة واضحة عن محاضر الشرق، فأصبحنا نعلم كثيرا من أخبار "ول انككو" وكثيرا من الشواهد والأمثال المتعلقة بحفظ القرآن ورسمه وضبطه مما تختص به تلك المنطقة، وتعلمنا كثيرا من أخبارهم وقيمهم، وبالطبع أصبحنا نتقن كلامهم (كنا نستخدم مفردات "الدوايه، السانكيه، الصرميه، لغشاشه والصابره" بدلا من "السمغه، الغبه، لوساده، تشغليت والمرجن" مثلا) وكنا نتعشى "بكسكس " في قلب المثلث بين بتلميت والمذرذرة والركيز.
كما كنا محظوظين بكثير من القصص عن الحوظ، وخاصة ما كان يرويه لنا سيد فاضل، اسمه الصغير ولد احميده، كان يعمل تاجر أبقار، روى لنا بعض أخبار وثقافة "اتنيبه" وبطولات رجالها ونسائها، وكانت فترات إقامته معنا بمثابة الربيع لعامنا الدراسي/المحظري المضطرب.

موهبة في التدريس
يملك محمد غيثي موهبة خاصة وصبرا عجيبا وحزما في تحفيظ القرآن، ولا يحتاج المرء هنا إلى أن يقول إن "سُرات طايبات" فهذا حشو، لكنه تعدى هذا إلى أنماط تربوية في الربط بين المتشابه في القرآن، وإرشادات تعين على حفظه.
مرة كنت "نعرظ اعليه" (ما نعرف عبارتها العربية بالضبط) من سورة الإسراء وتشابهت علي خواتم الآيات التي تنتهي ب"محظورا" ومحذورا" فنهرني قائلا: عند العذاب احذر واحظر عند العطاء، يقصد: "وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا" "إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا"
ومع حرصه الشديد على أن نحفظ القرآن، فقد كان محمد غيثي منسجما مع نظام القرية في الجمع بين التعليم المحظري والمدرسي، وكان يحاول أن يوفر لنا جميع الظروف التي تتيح لنا التفوق الدراسي، بما فيه توفير المعلمين ودروس التقوية، وتشجيع المتفوقين.

طريق المجد
في رصيد محمد غيثي مئات من حملة كتاب الله العظيم، ولكل واحد منهم حكايته الخاصة، وقد كان مضطرا للتعامل مع آلاف من الطلبة الآتين من جميع مقاطعات موريتانيا بل وخارجها، وبقدر تفاوت جهاتهم وقبائلهم كان تفاوت استعدادهم للقرآن واجتهادهم في تحصيله، فكان عليه أن يتعامل مع كل واحد منهم بما يحقق الأهداف التربوية المرجوة، فمنهم من يكفي في توجيهه أن ينظر إليه شزرا، ومنهم من يحتاج توجيها لفظيا، وآخرون لا بد لهم من السياط وسلاسل الحديد.
كان يتعامل مع عتاة المراهقين ومرَدَة الشباب الذين أتى بهم وكلاؤهم من نواكشوط ونواذيبو وآدرار والسنغال وغينيا ومن كل مكان، لغرض نبيل هو حفظ القرآن الكريم، وأمام هذا الواقع المتمثل في واجب تأديب هؤلاء وتعليمهم، واجه محمد غيثي إكراهات كثيرة، كان في بعضها مضطرا لاستخدام أساليب، تعتبر اليومَ منافية لقواعد التربية، ويعود أصل استخدام تلك الأساليب إلى أمور متجذرة في الوعي الشعبي، وخاصة في المنطقة الشرقية وبعض ضواحي بتلميت، من تلك الأمور ما هو مقنع، ويؤمن به المدرسون والوكلاء على حد السواء، وهو أن القرآن الكريم يستحق كل عناء وتعب.
وسأختم هذه الفقرة بقصة كنت شاهدا عليها، حيث هرب من المحظرة طالب (سيقرأ هذا المنشور بالتأكيد) فخرجنا جميعا في البحث عنه، إلى أن قيل لنا إنه دخل في "بيت" من دار أهله (أعني المكان الذي تحرُم فيه قراءة القرآن) وأدخل معه سكينا، وأقسم لأمه أنه سيقتل نفسه إن هي فكرت في رده للمحظرة، فما كان منها إلا أن قالت ما معناه "آن كَاع إلين اتعود مانك حافظ يسو اعلي إل اكتلت راصك" أو عبارة قريبة من هذا، ومن يعرف تلك السيدة وأسرتها لا يستغرب هذا الموقف العظيم، الذي لن يتقبله الجميع، بالتأكيد.
ذلك الطالب أصبح الآن شيخا وقارئا، ولا شك أنه يدعو لأمه ولمحمد غيثي ليلا ونهارا!

التراويح والدرس
إن محمد غيثي، بلا شك، هو أهم وأشهر معلم قرآني في معطى مولانا، وتتصدر محظرته غالبا في عدد الحفاظ سنويا، كما حدث هذا العام، غير أن من مميزاته أيضا أنه أمّ التراويح في الجامع الكبير بمعطى مولانا، كما ظل دائما يقدم الدروس القرآنية الأسبوعية، وهي حلقة فريدة لتدارس كتاب الله، تتميز بها معطى مولانا.

كرم الضيافة
أشهد لنا بأنه رجل مضياف، وطيلة 10 سنوات كنت فيها مقيما في محظرته، لا أذكر أن ضيفا مر به دون أن يكرمه غاية الإكرام، ومن إكرامه الدقيق لضيوفه أن يبَش في وجوههم ويفرح لوجودهم في حالة تشبه المعنى الشهير "كأنك تعطيه الذي أنت سائله" وضيوفه أنواع، منهم وكلاء التلاميذ ومنهم أقارب، وأناس عابرون لا يعرفهم ولا يعرفونه، مروا من جانب القرية فتلقاهم بالبشابة والحبور. وكان لا يعلم بوجود أحد من "أهل الشرق" في القرية إلا استضافه وأكرم وفادته، وبمعنى آخر فقد كان سفيرا حقيقيا وفوق العادة للحوضين في قلب ولاية الترارزة.
وأعانته على مهمته النبيلة سيدة فاضلة هي والدتنا فاطمة بنت الداه، فقد كانت لنا أما، وكم أنقذتنا من مواقف عصيبة، وكنا نرسل معها الرسائل التي لا نستطيع أن نواجهه بها، مثل طلب "قُرُودْ" أو "خروج" كما يقول "أهل الكبلة"!

إشراقات
مع المنهج الصارم التي تفرضه طبيعة التعامل مع مئات من التلاميذ، والتركيز على التعامل مع القرآن على مستوى النص، أي حفظا وتجويدا، ففي مرات نادرة تسمع له تعليقات في فهم القرآن، وهي تأملات من ذلك النوع الذي لا يوجد في الكتب، إنما هي إشراقات ربانية، وإن من يشتغل بالقرآن عمرَه لجدير بأن يفتح الله له فيه ما لم يفتح لسواه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

في ذلك السياج المستطيل، الواقع إلى جهة الجنوب الشرقي من المسجد الجامع، تُلي القرآن آلاف المرات، وتحت تلك الشجرة كُتب القرآن في آلاف الألواح، ولا توجد حصية من تراب ذلك المستطيل إلا وقد سمعت حظها من القرآن!

حفظ الله محمد غيثي وأطال بقاءه وجزاه عنا خيرا ولا زالت تلك المحظرة عامرة بالقرآن وبه.

المصطفى متالي
---------------------
الصورة مقتطعة من صفحة "معطى مولانا ميديا"