عندما كان الرشيد معلمنا

رأيناه في الساحة يلبس دراعة خضراء...كان يمرر أصابع يده اليمنى على مقدمة رأسه يستبقي شعرات طويلة منبطحة على صلع خفيف في مقدمة رأسه...كانت الشعرات مشاغبة ترتفع في رقصة هادئة كلما هب النسيم....سلمنا عليه ونحن نعيش أفراح الخروج من جحيم بعض معلمينا ذوي العصي الطويلة التي كانت تعبث بأجسامنا النحيلة دون رحمة....فرحنا بنجاحنا لأن إخوتنا الكبار كانوا يقولون إن الناجحين إلى الإعداديات يودعون ضرب المعلمين....
كان المغفور له الرشيد ولد صالح أول أستاذ درسني العربية...سنة 1975 في إعدادية ألاك...هو مديرها الأول وأستاذ اللغة العربية والتربية الإسلامية والمدنية والأخلاقية الأول أيضا....كنا صغارا جدا أغلبنا حديث عهد بالبادية...
وقف أمامنا كفاتح مرابط وألقى خطاب التعارف فتدفقت علينا الصور الشعرية الجميلة وأساليب اللغة العربية الماتعة وأخذنا معه في رحلة أدبية فاتنة حقا رأينا فيها كم تكون الكلمة ساحرة وكيف يكون الحرف العربي عظيما رائعا حين يمتطي حنجرة عسلية كحنجرة الرشيد تسبح بك عاليا في زرقة الأبدية لتحلم وتذوب وتفنى في مفاتن العربية الحسناء بعيدا عن الأبجدية الأرضية الرخيصة... أدركنا ذلك ونحن أطفال .....قد يدفعني التهور إلى أن أقول إن مستوياتنا في تلك الأيام واستعدادنا للتلقي والاستيعاب يفوقان كثيرا من مستويات من يخيل إليهم اليوم أنهم مبدعون وأنهم متميزون...
كان الأستاذ الرشيد رحمه الله حريصا على تنمية ملكاتنا الأدبية وقدراتنا اللغوية....
تميز الأستاذ الرشيد بخطابة نادرة....تنساب من فيه العبارات سلسة تزدحم لكنها كانت تخرج في نظام وانسجام يأخذان بتلابيب العقل والقلب فلا يجد المسكينان غير الاستسلام راغبين غير مكرهين وهما يذوبان افتتانا بشلال لغوي يتدفق بلا انقطاع ولا تأتاة ولا استعانة بكلمة عكاز....
في يوم من أيام الاك الحارة ملأ العاملان القدور ماء..كانا يجذبان الماء من بئر عميقة جدا مستعينين بحمير ورشاء بطول 40 مترا....وكانت قدر الإدارة والأساتذة صغيرة الحجم...كنا نتحلق حول تلك القدور للشراب تارة وللشغب في أكثر الأحيان...رأينا الأستاذ الرشيد قادما فتفرق التلاميذ إلى أقسامهم وبقيت لأشرب...فحرضتني زميلاتي زينب ومريم وشيته على شغب غريب...أن أتفل في القدر التي يشرب منها الأساتذة....لست أدري أية مشاعر في ذلك الوقت دفعتني إلى الاستجابة لهذا الطلب الخطير ففعلت ولكني رأيت بصاقي خارج القدر ولا أنكر أن ذرات منه دخلتها...وشاء القدر أن يكون الأستاذ الرشيد أول من يشرب من القدر ونحن وقوف نرقبه...ولما قفل راجعا شعرت بحزن شديد....ما أقسى أن يشعر الطفل بارتكاب العار ...فبكيت وانسللت من القسم وعدت إلى المدينة ولما كان الغد أخبرت الأستاذ الرشيد أني تفلت في القدر وأنه شرب منها وشعرت بالراحة وأنا أعترف بخطيئتي...كان الأستاذ الرشيد عظيما ورحيما فقال لي ريقك مبارك أنا نمت البارحة نوما لم أنمه من قبل شعرت بالراحة والاطمئنان وربت على كتفي مبتسما وأدلفني إلى الفصل....
في يوم من أيام فبراير 1976 وبعد الاختبارات الأولى قال لنا : أيها التلاميذ إني اكتشفت أن في الفصل تلميذين لا بد أن أقيم بينهما مبارزة أسبوعية في الإنشاء وسيكون الموضوع الأول أن يصف كل منهما قريته....وحان اليوم المشهود....وقف الأستاذ الرشيد وقال : المرتضى وسالم فال إلى السبورة....فقرأت ما كتبت عن أغشوركيت وقرأ سالم فال ما كتب عن جونابه...ونحن نرتعد ترقبا لحكم الأستاذ والتلاميذ متحمسون للتصفيق عند إعلان الفائز...فاجأنا الأستاذ الرشيد بقوله : أيها التلاميذ لاشك أنكم مثلي انبهرتم بجمال هاتين القريتين إنهما قريتان جميلتان حقا ولا بد أن أزورهما...ضجت القاعة بالتصفيق وعانقنا الرشيد وصفق لنا طويلا واحتفظ بالورقتين....اكتشفت بعد ذلك عظمة الأستاذ وعمقه التربوي فهو في قوله إن القريتين جميلتان لم يسمهما لأن ذلك يقتضي ذكر إحداهما قبل الأخرى وهو لا يريد ذلك حتى لا يفهم التقديم في اللفظ تقديما في الرتبة...ما أعظمه!!!!
لما اقتربت ذكرى الاستقلال الوطني أنشأ منا فريقا مسرحيا لتمثيل مقتل كبلاني...فاحتاج إلى أن يقدم لنا دروسا في المقاومة...وما زلت أذكر اختياره لزميلي اعباده ليمثل دور كبلاني ...نظرا للونه وطريقة اصطفاف شعره....
مرت الأعوام سريعة بطيئة افتقدت أستاذي وفي صدري أشواق إليه لا تحد...حتى كان عام 1986 علمت أنه حول مديرا لثانوية البنات وكنت وقتها أستاذا في إعدادية البنين فذهبت إليه ...استوقفتني وحدات صغيرة من الجيش الأبيض بدأت تمهد لاحتلال شاربه و لحيته...نهض إلي باشا ...لم أبح له باسمي ...وكررت : أستاذ كيف حالكم فاستخبرني عن نفسي ولما ذكرت له اسمي احتضنني طويلا وقال لي عرفت الاسم وجهلت الجسم فاعذرني أنا درستك صغيرا وأنت الآن رجل...
أستاذي العزيزاليوم أجدني أجلس في نفس المكان الذي جلستَ فيه ذات زمان من عام 1975 .. لكأني أسمع الدولاب والجدران الأربعة للمكتب الصغير وبقايا أرشيف تقول لي :"دسنه"... وإذا خلت الأقسام من التلاميذ دخلت القاعة رقم 1 وفيها درس القسم 1B1 سنة 1975 وجلست وحدي قبالة النافذة الشرقية في المكان الذي كنت أجلس فيه تلميذا أتابع شرحك أستاذي الرشيد لقصيدة: يا مورتان لك الكلاءة والظفر @فابقي إلى جنب العروبة لا مفر@
خلوة أركب لها ذكريات الزمن الجميل...أختلسها كلما حاصرتني رداءة العصر وأعيش بالشوق والحنين زمنا تولى....
..... رحم الله أستاذي الكبير الرشيد ولد صالح رحمة واسعة....
من صفحة المرتضى / محمد اشفق