العربية أم الفرنسة في موريتانيا؟!

أعرف أن السؤال أعلاه يثير حنق أهل الفطر السليمة، كون القضية بالنسبة لهم يمكن الإجابة عليها و حسمها و إسقاط مشروعية الاستفهام ؛ بقلب السؤال ليكون:

الفرنسية أم التعريب في فرنسا؟
فإذا كان لعاقل أن يحاجج عن تسيد اللغة العربية لمجال التداول العام في بلد مثل فرنسا في مدارسه و مؤسساته السيادية و السياسية (الرئاسة الحكومة البرلمان القضاء الأمن الصحافة الفرنسية…) فإن له أن يقترح الفرنسية لغة وطنية في دولة عربية إفريقية مسلمة كموريتانيا؛ الذكرى الوحيدة التي تربطها بفرنسا لا تشفع للغتها، إنها ذكرى الاحتلال!

أما دعوى الانفتاح العلمي و الاقتصادي و العالمي، فصاحب الفطرة السليمة سيحتج علينا أيضا بالسؤال :

و ماذا عن الانجليزية و الألمانية و الصينية …مثلا، و مع ذلك تجب إضافة الفرنسية ، و لكن ليس شيئا أكثر من إضافتها إلى القائمة الطويلة ، إذ الفرنسية ليست بمنزلة رحم منا دون اللغات الأخرى، هذا للذين يفكرون بعقولهم هم و بمصلحتهم هم و ليسوا لمن يلقمون بأيادي أخرى – كما في المثل الشعبي عندنا-
و لكن لنحاول أن نكون منصفين أيضا، نحن نشعر بالضيق الذي يحيق بالأديولوجية الفرنكفونية (المتفرنسين من أولاد فرنسا) -كما تسميهم الأدبيات المغاربية- ليس في موريتانيا فقط بل في إفريقيا و كثير من دول نفوذ التقليدي الفرنسي؛ لكن ما هو ردهم على تسيد الإنجليزية مثلا للمشهد الداخلي الفرنسي أيضا- هذه مجموعات المصالح القليلة التي تقدم نفسها كذراع يحاول الارتباط الدائم بفرنسا، عليها أن تدرك ضعف المناعة الثقافية الذي تصيب هذه اللغة الآن عالميا، في ظل تسيد لغات أخرى لمجالات الصناعة و الابتكار و التجارة و الاقتصاد و السياحة …و فشل تلك الدولة في التسييج على مصالحها اقتصاديا و تنمويا، أمام عولمة جديدة ، تلحق فيها الشعوب هوياتها و مصالحها فقط.

إن محاولة ملء الرؤوس و ترك البطون جوعى، استراتيجية ثقافية تفقيرية قديمة و متقادمة، و على فرض صلوحها في بيئات و مناطق أخرى فإن الأمر تصعب المحافظة عليه في موريتانيا لأسباب متشعبة منها: أن رؤوس ساكنة هذا البلد كلهم، مملوءة بمعارف راسخة و متنوعة سابقة على عصر فرنسا التنويري لفرنسا و الاستعماري لغيرها، النفور التاريخي للموريتانيين في غالبيتهم من هذه اللغة -و الذي قد لا يكون موضوعيا الآن- و الذي ترجمته المقاومة الثقافية ؛ تخرج عشرات الآلاف من الطلبة من كل الاثنيات الموريتانية بأعلى الشهادات باللغة العربية( الطب الهندسة المعلوماتية القانون الاقتصاد الادارة الإعلام و الآداب…الخ)؛ هجرة الشباب الموريتاني وعودته برأس المال – الأكثر اغراء-رمزيا و ماديا إلى البلاد الأنجلوسكسونية، تزايد الشراكة التجارية و الاقتصادية مع شركاء جدد الصين و بريطانيا و أمريكا و زيادة و تيرتها مع الوطن العربي، اكتساح اللغة العربية للمجال العمومي في التداول و النقاش و الإعلام و الإعلان …فضلا عن أن الذين يفهمون الفرنسية في الأرياف و المدن لا يتعدون نسب ضئيلة يعجزون عن قراءة الفواتير بها فما بالك بقراءة شيء آخر.

هذا الانكماش و التراجع لمساحة اللغة الفرنسية من حيث الوجود و التأثير، هو ما جعل البعض يثير من وقت و آخر ، حجج لا قيمة لها تاريخيا و واقعيا بأهمية بقاء الفرنسية في المشهد الموريتاني و لو كان ذلك على حساب العربية.

نحن هنا مضطرون للتذكير بالحقائق التاريخية و الواقعية للمتباكين على اللغة الفرنسية!
اللغة العربية وهذا تشهد عليه المخطوطات و المرويات و حركة العلم؛ تعليما و إنتاجا( التأليف) و القضاء، هي لغة الشعب الموريتاني كله دون تمييز و دون فرض أيضا -كما تدعي القراءات الشعبوية ذات الأثر الرجعي للتاريخ- فهي لغة كل الاثنيات الموريتانية (الزنجية والبربرية والعربية) لأنها ببساطة لغة العلم و الدين و الثقافة …و لم تكن على حساب اللهجات المحلية التي دعمتها بالحرف و بالمضمون.

محاظر الضفة الموريتانية تشهد على هذا و الوثائق لا زالت تدين المستعمر الفرنسي لحرقه مئات المكتبات العربية و الإسلامية التي تحوى نفائس الكتب في اللغة و القرآن و التفسير و الفقه و الأصول والسير والتراجم والحساب و الفلك… في محاظر المكون الزنجي الافريقي الموريتاني.

و هي سياسة فرنسية استعمارية -في حينه- تروم كأي مستعمر زرع بذور الشقاق و الفتنة، و محاولة سقيها إلى آخر نفس ممكن حتى بعد مغادرته، بين اثنيات و مكونات الشعب الموريتاني.

و الخلاصة:

يجب إبعاد المسألة اللغوية عن التجاذب السياسي، فالحق أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية دستوريا ، و أن اللهجات المحلية لها مكانتها الوطنية، و أن هناك حقائق أخرى و هي أهمية اللغات الأجنبية في التعليم و البحث والمعرفة والتكوين ، وليس شيئا آخر من قبيل منافسة العربية أو التميكن للغات الأجنبية على حساب اللغة العربية في الإدارة و في المجال العمومي.

و الحقيقة الأخرى أن هناك مشكل نتج عن الخيارات و التوجهات الخاطئة في التعليم و الإدارة و هو وجود من تكون بإحدى اللغتين على حساب معرفته للأخرى، و هم مواطنون متساوون في الحقوق و الواجبات ، و يجب حل هذه المعضلة بعقلية منفتحة و مصلحية واضحة.

أخيرا؛ ما ذهب إليه رئيس البرلمان سليم جدا دستوريا و سياديا، فلغة التداول في المؤسسات سواء البرلمان أو مجلس الوزراء أو في أي مجال رسمي آخر، لا يمكن أن تكون بالفرنسية إلا إذا كان عاديا أن تكون اللغة العربية هي لغة المخاطبة في البرلمان الفرنسي مثلا.

الدبلوماسي السعد عبدالله بيه