القشة التي قصمت ظهر البعير

 الثقافة بمعناها الواسع، تشمل كل تجليات التعبير المشترك كالحِكَم والأمثال الشعبية وكل الموروثات. إنها وليدة تفاعل الناس ومتطلبات حياتهم، ليتم تناقل المنجز جيلاً بعد جيل ضمن منظومة الهوية. هنا نتلمس عروق الذهب الذي بلورته التجارب حتى انتهى إلينا عبر اللغة بما يلخص قصة عناق طويل مع الحياة.

 

كثيراً ما نسمع عن هذا المثل يضرب في الموقف البسيط، أو الكلمة الوحيدة التي تطلق فتنفجر على إثرها مشكلة ضخمة، وفي الحقيقة فإن تلك الكلمة أو ذلك الفعل المستهان به، لم يكن إلا سبباً ظاهرياً فقط لانبعاث أزمة أكوام سبقته من المشاكل والكلمات والمواقف التي صبرنا عليها، حتى بلغ الأمر حده، وإنما للصبر حدود كما يقولون، فإذا جاء بعد حد الاحتمال أقل القليل فإن الحال ستؤول إلى الانهيار حتماً، حيث طفح الكيل، تماماً مثل ميزان الذهب الذي يبقى صامداً حتى لحظة سقوط ذرة صغيرة عليه فإذا به يرجح، وفي الحقيقة فإن هذه الذرة الأخيرة ليست هي التي رجحت الكفة وإنما هي التي حولت نقطة الارتكاز والتحمل من جهة إلى أخرى، فكانت القشة الخفيفة التي قصمت البعير.

 

فأية قشة وأي بعير هذا؟

قيل إن أعرابياً كان على سفر فأخذ يحمل أمتعة كثيرة فوق ظهر جمله، حتى تراكم فوق ظهره ما تطيقه أربعة جمال، فبدأ الجمل يئن من ثقل المتاع إلا أن الرجل لم يهتم، وإنما بقيت له حزمة قش، رأى أن يحملها غذاء لدابته في طريق الصحراء، ولأن الجمل بدأ يحمحم ويهتز وينوء بالحمل، فإن الأعرابي جعل يضع عليه الحزمة، قشة وراء قشة، خشية أن ينهار، وظل الجمل يقاوم، إلى أن جاءت لحظة وضعت فيها آخر قشة فسقط البعير وهلك، فعجب الناس لذلك وقالوا: قشة قصمت ظهر البعير؟!. فذهبت مثلاً.

 

نستنتج من هذا أنه يجب عدم الاستهانة بصغائر الأمور، كما ينبغي ألا ننظر إلى السبب المباشر باعتباره هو السبب الحقيقي للمشكلة الكبرى. فالبركان الخامد يمور داخل الأرض، ولا ينفجر إلا فجأة.

 

وخير حال يمكن أن يعبّر عنها هذا المثل، ثورة البوعزيزي التونسي الذي أشعل نفسه، لتلتهب معه ما أطلق عليها بثورة الياسمين، وتكر بعدها سبحة الانتفاضات والحراكات الشعبية لتتساقط إثرها سلسلة من أنظمة انفجرت شعوبها التي طالما ظلت تئن، رغم أن تلك الشرارة، لم تكن مجرد رد فعل لإهانة عابرة تلقاها شاب عزيز نفس من شرطية، وإنما لأن كل الطرق نحو الحياة الكريمة قد سدت في وجهه، وبلغ سيل معاناته الزبى وقمم الجبال، ونتيجة لذلك الكبت المتطاول واليأس وفقدان الأمل حدث ما حدث، وجر وراءه الويلات التي ما كانت لتحدث لولا تلك القشة، أو أنها كانت ستحدث بقشة أخرى، طالما الواقع المعبأ كان ينتظرها لتحين، فينهار السقف على الجميع.

د. محمد سبيل